ما كانت رؤيا إبراهيم - عليه السلام - بذبح إسماعيل سوى امتداد لنهج الخليل خلال سيرته، وكانت الرؤيا بالعين نقطة الانطلاق في رحلته الإيمانية، كما جاء في قوله تعالي: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ»، وتراوحت رؤيا خليل الله ما بين المنام والواقع، وتعد رؤيا الأنبياء رؤيا حق من الله عز وجل، والله أعلم بكيفيتها.
ورسالة الأنبياء تعتمد في الغالب على الوحي وجزء منها على الرؤيا في المنام، فالوحي وسيط بين الله ونبيه لتبليغ رسالته، والرؤيا إعلام من الله لنبيه بشكل مباشر، ورؤيا الأنبياء لها دلالة عظيمة لارتباطها بصلاح البشرية، وليست كرؤيا العامة.
ومن الملاحظ أن الرؤية بالعين هي الوسيلة الرئيسية لاستدلال إبراهيم عليه السلام على وجود الخالق، وأنها أيضًا السبيل إلى اليقين بقدرة الله، وهي الطريق حتى يطمئن قلبه، وبعدما حطم إبراهيم الأصنام كانت محاجاته لقومه بالبراهين والأدلة المنطقية التي لا تكذبها العين، وكان الإيمان راسخًا في فؤاده ونفسه راضية حين ألقاه النمرود وقومه في هوة سحيقة من النار.
ورحلة البحث عن الله تفتح الباب بين الباحث وبين رب العزة لتزيده تقربًا إليه، وكأن البحث عن الله بمثابة الوسيلة التي حض عليها الخالق لكي يصل كل إنسان إليه ويؤمن به، وهذا ما جاء في قوله تعالى: «وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ».
وبما أن الرؤيا إحدى الوسائط بين الأنبياء وبين الله فقد جعلها الله المعجزة الأساسية لنبيه يوسف عليه السلام، وكانت رؤياه وهو صغير ولم يبلغ الحلم، أن أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر يسجدون له، وقص على أبيه يعقوب عليه السلام رؤياه، وكانت هى بداية معاناة يوسف ورحلته في تبليغ الرسالة.
وفي محطة أخرى من سيرة الخليل عن استعانته برؤية العين من أجل ترسيخ يقينه بعظمة الخالق، طلب من الله كما جاء في قوله تعالى: «أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ»، ولم يكن سؤال إبراهيم لرب العزة كيف تُحْيِي الموتى؟ إنما قال أرني، ورد عليه رب العزة قائلا: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»، فأخذ إبراهيم أربعة من الطير وقطعهن عدة أجزاء، وجعل على كل جبل جزءًا منهن، ثم أمره الله أن يدعهن، ففعل وجاؤوه سعيًا، فقد رأى عمليات التحام أجزاء الطيور ثم إعادة إحيائهن، وحكمة الله في أن يدعو إبراهيم بنفسه الطيور كي تأتي إليه سعيًا ليعلم أن الله عزيز حكيم.
وفي المحطة التالية في سيرة الخليل يرى رؤيا في منامه، ويقول رب العزة: «قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ»، وكانت الرؤيا في تلك المحطة ابتلاء له، ووصفه الله: «إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ»، ولم يتلكأ الخليل وسارع مستسلمًا ومنقادًا لطاعته، وهنا قال الله تعالي: «وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى»، وبنفس القياس للآيات السابقة ولهذه الآية إن إبراهيم كان قلبه يطمئن في رؤية آيات الله وكذلك كانت نفسه راضية وممتثلا لأمر الله في ذبح إسماعيل.
ويقول ابن القيم عن دلالة انقياد إبراهيم لرؤيا الذبح، إن الله تعالى لما رزقه الولد وكان قرة عين له تعلقت شعبة من قلب إبراهيم بمحبة ابنه، وفى ذات الوقت يعد إبراهيم هو خليل الله، ومنزلة الخلة تقتضي ألا يشارك أحد في محبته بينه وبين الله، واجتاز إبراهيم الامتحان، فكانت محبة الله أعظم عنده.