"السلطة الحقيقية" أو "القوة الناعمة" كما أطلق عليها الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما"، وهي القدرة على إقناع الآخرين بفعل ما تريد، دون الحاجة إلى استخدام القوة أو الإكراه، وتستخدم "القوة الناعمة" في الإقناع وكسب القلوب والعقول بدلاً من الحروب.
والحقيقة أن مفهومها ليس بجديد لكن المصطلح ذاته ابتكره أستاذ العلوم السياسية والمساعد السابق لوزير الدفاع للشئون الأمنية الدولية في حكومة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون "جوزيف ناي"، والمنشور في مجلة السياسة الخارجية بعنوان "القوة الناعمة"، وذلك في تسعينيات القرن الماضي، وقد سلط الضوء على قدرة بعض الدول واستثمارها لعناصر الجذب الحضارية والثقافية دون الاضطرار إلى اللجوء للإكراه، بهدف الإقناع ونشر الدعاية والفكر الوطني، عبر الآداب والفنون، وأحيانًا عبر الدبلوماسية الرشيقة.
وتُعد قوة الدولة من العوامل التي يعلق عليها أهمية خاصة في ميدان العلاقات الدولية، وذلك بالنظر إلى أن هذه القوة هي التي ترسم أبعاد الدور الذي تقوم به الدولة في المجتمع الدولي، الأمر الذي يحدد إطار علاقاتها بالقوى الخارجية في البيئة الدولية، وامتلاك عناصر القوة لا يكفي حتى تكون الدولة مؤثرة، فلابد من تبني سياسات فعّالة لاستخدام تلك القوة.
وتصدرت الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والمملكة المتحدة واليابان والصين، المراكز الخمسة الأولى بالترتيب في القوة الناعمة، وذلك حسب تقرير دولي أعدته شركة "براند فايننس" الرائدة في مجال العلامات التجارية، بالتعاون مع جامعة أكسفوردو.
كما أشار التقرير إلى حصول دولة الإمارات العربية المتحدة على المركز الأول عربيًا والعاشر عالميًا لعام 2020، وصُنفت مصر في المركز الـ38عالمًيا والتاسع عربيًا، فيما اتخذت كل من ميانمار والعراق وكازاخستان وبنغلاديش ونيجيريا نهاية القائمة.
وبحسب التقرير يجري تقييم الدول وفق 10 معايير رئيسية وهي: التأثير العالمي الملحوظ للدولة، وسمعة الدولة، والمعرفة العامة بالدولة، والأعمال والتجارة فيها، والثقافة والتراث، والتعليم والعلوم، والحوكمة، والعلاقات الدولية، والإعلام والاتصال، والشعوب ومنظومة القيم الشعبية"، وحظي عنصر التأثير العالمي بالحصة الأكبر في تقييم كل دولة بواقع 30% من إجمالي القوة الناعمة، فيما نال معيارا سمعة الدولة والمعرفة العامة بها نسبة 10% من التقييم لكل منهما، وتوزعت الـ50% الأخرى على باقي المعايير.
ولكن ترتيب مصر - وفقًا لهذا التقرير - يجعلنا نتساءل لماذا نجد مصر في هذا الترتيب، على الرغم من امتلاكها الكثير الذي يجعلها في أول القائمة؟ فمصر هي التي صاغت عقل ووجدان المنطقة العربية وامتد نفوذها إلى أبعد من ذلك في إفريقيا وآسيا؛ بفضل فنونها وثقافتها ومؤسساتها الدينية والتعليمية.
ومصر التي صدرت روحها ولهجتها عبر وفود التعليم وشاشات السينما وأصوات مطربيها ونغمات موسيقييها، حيث تستطيع أن تحتل مركزًا مهمًا إقليميًا وعالميًا عندما ندرك أهمية الاستخدام الصحيح والأهداف المرجوة من مصادر "القوى الناعمة".
وقد شهدت مصر نهضة ثقافية وفنية رائعة وتعليمًا على أعلى مستوى منذ عهد محمد علي الذي أوفد لخارج مصر بعثات تعليمية للدول الأوروبية في العديد من التخصصات، فعاد أبناؤها للمشاركة في نهضة مصر الحديثة، وفي التعليم والثقافة، ومختلف الفنون التي فاقت مصر بها الدول الأخرى.
وتشهد على ذلك أوبرا القاهرة، ومتاحف مصر، ودار الكتب، ونهضة الفنون في مصر في جميع المجالات، فشهدت مصر النهضة التعليمية والثقافية منذ عهد علي باشا مبارك، والتاريخ الأدبي والإسلامي الذي قاده عظماء مصر من الشيخ محمد عبده، وأحمد لطفي السيد، ومصطفى كامل، وسعد زغلول، ومحمد حسنين هيكل، وعبدالسلام فهمي جمعة، وعلى عبدالرازق مؤلف كتاب “الإسلام وأصول الحكم”، وشقيقه الشيخ مصطفى عبد الرازق؛ الذي تنازل للقصر الملكي عن لقب الباشوية بعد تعيينه شيخًا للجامع الأزهر في أربعينيات القرن الماضي، والأخوين أحمد ماهر وعلي ماهر، وأحمد فهمي النقراشي، وإعلاء شأن المرأة وتحررها بمبادرة قاسم أمين، وصفية زغلول، ودرية شفيق، وفنون المسرح والسينما، التي قادت القوى الناعمة في مصر والعالم العربي.
وعلى الرغم من أن "القوة" يمكنها التأثير وحدها بمجرد الوجود أحيانًا، فإن استخدامها يتطلب قدرًا من المهارة، وإدارة القوة هنا هي "السياسة" بعينها، التي يقوم بها القادة أو من بيدهم إدارة مصالح الدولة، إذن فهي مرتبطة بالدولة، وهي التي لديها احتكار الاستخدام الشرعي للقوة.
وعلى مدى القرنين السابقين استخدمت مصر كافة أشكال القوة، سواء ما كان منها صلبًا أو خشنًا أو ناعمًا، وكانت نتيجة استخدام القوة الصلبة مخيبة للآمال، بل إنها قادت في أوقات كثيرة إلى ردة كبرى في تحقيق أهدافها القومية في التحرر والاستقلال والتقدم، وتراجع في مكانتها الإقليمية والدولية، فقط عندما كانت القوة الصلبة تستخدم مع قوة مصر الناعمة، فإن النتائج كانت مختلفة، فكان “التحديث” الذي جرى خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين هو الذي دفع بمصر إلى مقدمة الصفوف في إقليم الشرق الأوسط، ولقيت مكانة مرموقة في النظام الدولي.
وأخيرًا، لابد من تحديد الأولويات والاستثمار في عناصر القوى الناعمة بما يُدر عائدات على مصر بأقل تكلفة ممكنة في مدى زمني قصير، والتعاون مع مؤسسات الدولة لتقديم الرؤية والمشورة، بالإضافة إلى دعوة خبراء ومتخصصين لإجراء مناقشات مُوسعة تُثري الرؤية المزمع صياغتها.
وعلينا دائمًا أن نتذكر أن الاستقرار السياسي والمتانة الاقتصادية والتنوع المناخي والطبيعة الخلابة والتعدد الثقافي موجودة بالفعل لدى مصر، لكن لا ينقصها سوى كيفية إدارة هذه العناصر الإدارة المثلى؛ حتى تهيمن مصر بقوتها الناعمة، وتحتل مكانها ومكانتها التي تليق بها وبحضارتها.