ربما تكون المرة الأولى التى يقف فيها الشعب المصرى موحدا أمام قضية داخلية تفرض عليه من جانب غير عسكري. وعندما نشير الى وحدة الشعب المصرى فإننا نعنى جميع شرائح وطبقات الشعب المصري، في حضره وريفه وباديته.
يواجه الشعب المصرى مرحلة تحمل صراعا حقيقيا من أجل توفير لقمة عيشه. فأخيرا لم يعد يعتمد على الاعتقاد الراسخ أن الطبيعة وهبته نيلا جاريا يأتيه بالماء والطمى اللازمين لتوفير المأكل والمشرب والملبس.
لقد عاش الشعب المصرى آمنا على مصادره منذ أن انشق الأخدود وجرت فيه المياه وتكونت التربة السوداء الغنية التى قدمت كل الخيرات التي ننعم بها. وقد عرف المصريون منذ البداية كيفية استخدام الماء والاستفادة من الحوض الذى يجرى فيه وكيف يستخدم ما يحيطه من صحراء هى الأكبر فى العالم. زرع الوادي الخصيب حيث الماء والأرض الخصبة وحول صحراءه إلى أماكن تضم جثامينه بعد أن يفارق الحياة. لم تبخل عليه الطبيعة ولم يبخل هو على الإنسانية بالعلم والعمل والفكر. فكانت المعادلة التى جعلت من المصريين أصحاب أقدم الدول وأغنى الحضارات الإنسانية.
والآن تقف الدولة المصرية، حكومة وشعبا أمام معادلة جديدة تحرمهم من أعز ما يملكون من عناصر الحياة التى طالما تغنوا بها بدءا من أغنية النهر الخالد مرورا بـ امتى الزمان يسمح يا جميل/ واسهر معاك على شط النيل والنيل نجاشي حليوة اسمر/ وشمس الأصيل نورت فوق النخيل يا نيل/ ومصر هي أمي/ نيلها هو دمي. وعشرات الأغانى التي ينقلها الأبناء عن الآباء الذين نقلوها عن الأجداد والتي تدور كلها عن النيل الذى جمع المصريين وأعطاهم الحياة منذ بدايات التاريخ.
وعندما نتحدث عن المعادلة التى تواجه الدولة شعبا وحكومة فإننا نعنى في نفس الوقت أن مواجهة هذه المعادلة لا تعني التصدي لمنعها قدر ما نعنى مواجهة الحلول التى تساعد هذه الدولة، حكومة وشعبا، على حلها للوصول إلى نتائج تساعد على استمرار الحياة وبناء حياة أفضل هي من حق هذا الشعب الذى استمر على مدى تاريخه يقدم للإنسانية تراثا جميلا وحضارة متكاملة. فهى إذن مواجهة لابد أن تتسم بالعمل المشترك المخطط والمستدام الذي يساعد على استمرار الحياة.
فالمعادلة التى تخصنا الآن هى الخاصة بالمياه والتأثيرات التى ستصيب مخصصاتنا منها نتيجة للسياسات التي تتبناها وتنفذها الحكومات الإثيوبية تجاه دول المصب، السودان ومصر. وهي المياه التى ستحول بين المصريين وزراعاتهم التقليدية من أذرة وأقطان وقصب سكر وأرز.
والحقائق التي نملكها هي أننا نستهلك 55 مليار متر مكعب من المياه القادمة إلينا من النيل، بالإضافة إلى عدة مليارات قليلة ندبرها من تدوير مياه الصرف الزراعى ومحطات التحلية. والشعب المصرى يعانى الفقر المائى بمعنى أن نصيبه من المياه يقل كثيرا عن المستوى العالمي للفرد وهو ألف متر مكعب من المياه سنويا.
وهي حقيقة جديدة لم نكن نعرفها قبل أن يصل تعدادنا إلى المائة مليون. لقد دخلنا إلى حيز الفقر المائى خطوة خطوة مع زيادة تعدادنا السكاني عاما بعد عام ومع استمرارنا فى اتباع ذات أساليبنا فى الزراعة والرى التقليدية المصرية القديمة.
ولم تكن هذه الحقيقة غائبة على خبرائنا الزراعيين أو مهندسى الري المصريين الذين استمروا ينبهون إلى أهمية إعادة النظر فى سياساتي الري والزراعة. كما أن الدولة لم تتوقف عن المناداة بأهمية تنظيم الأسرة. إلا أن الدولة، وبسبب ظروفها الداخلية، لم تنتبه إلى كل ما يخطط لها من اعتداءات على حقوقها الطبيعية.
والآن جاء وقت العمل الجاد من الجميع لمواجهة المعادلة الجديدة. وعندما نقول الجميع فإننا نعنى الحكومة والشعب معا بلا انفصام، خاصة أن النسبة الأكبر من المياه التي نستخدمها تتجه إلى الإنتاج الزراعي. فالزراعة تستهلك نحو 85% من المياه التي يوفرها النيل. بمعنى أن المزارعين المصريين سيؤدون الجانب الصعب من هذه المعادلة الجديدة. ولاشك أن سكان الحضر المصريين، فى العواصم والمراكز، سيكون لهم دورهم فى المعادلة لأنهم يستهلكون حوالى 10% فى الاستهلاك المنزلى لكنهم يملكون قدرا من المعرفة بجذور المعادلة. كما أنهم يعيشون في أجواء تساعدهم على تلقى المعلومات أولا بأول.
لا تستطيع الدولة المصرية مواجهة هذه المعادلة بمفردها لأنها، أى المعادلة، تمس مجموعات بشرية ومناطق جغرافية لا تصلها يد الحكومة وإنما يسهل على أفرادها الساكنين بيوتها وأرضها الحديث إلى البشر بلغتهم السهلة المحلية وإقناعهم بأساليب مواجهة المعادلة.
يسهل على الدولة إصدار القوانين والتعليمات ولكنها لا تستطيع الوصول إلى كل العقول والسواعد التى تعمل بالتحديد فى زراعة الأرض التى هى محور معادلة المياه، كما أنها تستند إلى تراث وتقاليد عمل قديمة قدم النيل ذاته مما يصعب تغييرها بسهولة.
فيجب ألا ننسى أو نتناسى ان مناطق زراعية مصرية لا تزال لا تعترف إلا بنظام الري بالراحة أو بالغمر. فالمزارع الصغير يملك أقل من فدان، سواء كان مالكا أو مستأجرا، والذى ينتمى إلى شريحة الـ 83% من عدد المزارعين المصريين لا يملك القدرة على التحول من نظامه القديم إلى نظام جديد إلا بالتدخل والحوار البشريين المباشرين اللذين لا تستطيع الحكومة القيام بهما إلا من خلال تنظيم هؤلاء البشر المحاصرين بكل المشكلات الاجتماعية كالفقر والأمية وانعدام أي جهة تنظمهم بهدف يربطهم بأطراف هذه المعادلة المنتظرة.
فى هذه الحالة لا تستطيع الدولة التوجه لكل مزارع بمفرده وإنما يسهل عليها التعاون معه وهو منظم فى مؤسسات شعبية صغيرة مهمتها الأساسية هى العمل مع البشر ومع مشكلاتهم. ولنا أن نتصور ريف مصر وقد نشطت فيه منظمات مجتمع مدنى توحد عملها مع أهداف الحكومة فى مواجهة هذه المعادلة التي لا يمكن أن تخرج منها مصر إلا بالعمل الجماعي المنظم، الحكومي والشعبي.
* نقلًا عن صحيفة الأهرام