من واقع خبرتي العلمية والعملية وجمعي بين العمل الإعلامي والعمل الأكاديمي أقول شهادتي لوجه الله سبحانه وتعالى، وسعيًا لمزيد من التطور والرقى للمهنة والرسالة التي آمنت بها وعملت لها ومن أجلها على مدى أكثر من 45 عامًا، منذ أن بدأت عملي في جريدة الأهرام، مرورًا بالعديد من الصحف الخاصة والعربية والعمل الإذاعي والتليفزيوني، معدًا ومقدمًا وناقدًا، أقول الأهم من تجديد لوائح كليات وأقسام الإعلام وضرورة مواكبتها لكل مستجدات السوق الإعلامي والتطور التكنولوجي الحادث في دنيا الاتصال ساعة بساعة،هو الارتقاء بمستوى البشر.
فمهما تقدمنا تكنولوجيًا يبقى أن العنصر البشرى هو الذي يتعامل مع التكنولوجيا مرسلًا ومستقبلًا، وكليات وأقسام الإعلام هي المسئول الأول عن إعداد وتأهيل الإعلاميين، ووضع لبناتهم الأولى، أي بالبلدي "وضع خميرتهم" وإن لم تكن هذه الخميرة موضوعة على أساس متين وبخلطة مستوفية العناصر، فلن يقوم للصرح الإعلامي أي بنيان سليم، وإنما سيكون البنيان بلا أساس سرعان ما يتهاوى وينهار.
عندما تخرجت من قسم الصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1974، وجدت هناك فجوة بين ما درسته وما طبقته في عملي، وأن ما حصلته طوال سنوات الدراسة الأربعة ما هو إلا خلفية نظرية، وأن الأهم هو ما تعلمته على أيدي الزملاء في الجريدة، ومن خلال الممارسة العملية في أقسام التنفيذ المختلفة ومن العاملين بالجريدة، وما زال الوضع كما هو عليه بعد كل هذه المدة ،وهذا يؤكد مبدأ أساسيًا وهو أن يكون التركيز في كليات وأقسام الإعلام على النواحي العملية التطبيقية، أي تكون الدراسة العملية على الأقل 50% من المناهج.
وهنا استغرب بشدة ألا يكون لكل قسم صحافة جريدة على الأقل شهرية، تصدر بشكل منتظم، لتكون بمثابة المعمل الصحفي الذي يتعلم فيه الطلاب فنون الصحافة ويطبقونها بشكل عملي، وأندهش بشدة من أن هناك كليات إعلام وأقسام إذاعة وتليفزيون ليس بها أستوديوهات، وإن وجدت - وهذا نادر - تظل مغلقة طوال العام، ولا يراها الطلبة إلا وقت أن يزور الكلية ضيف أو مسئول، ومعظم مواد قسم الإذاعة يتم تدريسها خارج الأستوديوهات، وحتى أقسام العلاقات العامة، الدراسة فيها نظرية بحتة، اللهم مشروعات التخرج فقط، فلا وكالة إعلانية، ولا تدريبات على التحرير أو الإخراج أو الإعداد للوسائط الاتصالية المختلفة، كل شيء نظري، للأسف هذا هو الواقع، وإن لم نتداركه نكون كمن يحرث في الماء!!
أمر آخر ألاحظه وليس حكرًا على جامعة معينة، وهو أن فترة التدريب الميداني في بعض كليات وأقسام الإعلام، إن وجدت يغلب عليها الفوضى وعدم الدقة والتنظيم في الإعداد للتدريب مع المؤسسات الإعلامية، وينقصها المتابعة الجادة، وتغيب عنها الشفافية والموضوعية في اختيار القائمين على التدريب والمشرفين عليه، وأرى أن يكون هذا التدريب من خلال خطة دقيقة ومؤسسية، من خلال اتفاقات تعقد بين الجامعات والمؤسسات الإعلامية تضمن الجدية في التدريب وأن يكون هناك فريق مسئول في هذه المؤسسات عن التدريب، يتعاون مع فريق مؤهل وفاهم من كليات وأقسام الإعلام.
نقطة أخرى في غاية الأهمية، وهي المدرب الإعلامي، أو من يقوم بتدريس المواد الإعلامية، فلابد من الإعداد الجيد له، وتأهيله التأهيل الضروري لهذه المهمة، فليس الحصول على الدكتوراه هو الشرط الوحيد في من يقوم بهذه المهمة، وإنما لابد أن يكون من يُدرس مادة الخبر الصحفي على سبيل المثال، تدرب قبل أن يُدرسه على كيفية كتابة الخبر وصياغته، فلا يُعقل أن يُعلم الطلاب كتابة الخبر وتحريره، وهو لم يكتب خبرًا، أو أن يعلمهم كتابة التقارير أو المقالات أو القصص الصحفية وهو لم يمارس هذه الفنون الصحفية من قبل.
وهنا لابد أن تنظم كليات وأقسام الإعلام دورات تدريبية وورش عمل للمدرسين بها، باستمرار ليكونوا على علم وممارسة لكل مستجدات العمل الإعلامي، وهذا ينطبق أيضًا على أعضاء هيئات التدريس بأقسام الإعلام الأخرى، فكيف على سبيل المثال بمدرس لم يجلس خلف الميكرفون أو أمام الكاميرا أن يُعلم الطلاب التقديم الإذاعي أو التليفزيوني؟!
وفى هذه النقطة يمكن أن تتعاون المؤسسات الإعلامية المختلفة مع الجامعات في تنظيم دورات وورش عمل دائمة لأعضاء هيئات التدريس، وأن تتجه الدراسات والأبحاث إلى الجانب العملي التطبيقي في الإعلام بدلًا من تركزها على موضوعات نظرية، ليس لها مردود عملي سوى أن يترقي عضو هيئة التدريس إلى أستاذ أو أستاذ مساعد، ويظل كما هو بعيدًا عن الممارسة العملية التي يجب أن ينقلها إلى طلابه.
وإلى أن تحدث هذه الخطوة فلا غنى عن الاستعانة بالإعلاميين من صحفيين ومذيعين وخبراء علاقات عامة، في تدريس الجوانب العملية والتطبيقية، أو المواد الدراسية ذات الطابع العملي والتطبيقي، فهم الأقدر على شرحها وتوصيلها إلى الطلاب بشرط أن تغلب الشفافية وعدم المجاملة على اختيار الذين يقومون بهذه العملية حتى تكمل الاستفادة منهم.
وهنا لابد من أن تكون المناهج التي ندرسها، مناهج مستحدثة تواكب العصر، وهنا أضرب مثالًا بمادة الحملات الصحفية، فقد لاحظت على من يدرسونها أو المناهج التي يعتمدون عليها، أنهم ما زالوا يتخذون من حملة "الأسلحة الفاسدة" لإحسان عبد القدوس عام 1951 نموذجًا للحملة الصحفية على الرغم مما أثير حولها من تشكيك في الهدف منها، وأيضًا اعتمادها على المقال الصحفي فقط، في الوقت الذي تطور فيه فن الحملة الصحفية تطورًا كبيرًا، وأصبحت ترصد له جوائز سنوية بفرع خاص بها في جوائز نقابة الصحفيين المصريين، وجائزة الصحافة العربية في دبي.
هذه شهادتي ولا أرجو منها سوى أن يضعها المسئولون عن كليات الإعلام في الحسبان وهم يطورون الدراسات الإعلامية.
Dr.ismail52@gmail.com