دعوة للشباب لمعرفة (قصة الحضارة)
(The Story of Civilization موسوعة قصة الحضارة)
من تأليف المؤرّخ والفيلسوف (وليم جيمس ديورانت 1885- 1981) هى موسوعة ضخمة تعرض قصة الحضارات البشرية منذ بدايتها وحتى القرن التاسع عشر، وتتسم بالموضوعية الفائقة، قدمها في ١١مجلدا، وكان ديورانت يريد الوصول إلى القرن العشرين إلا أن السلسلة توقفت عند عصر نابليون، وهى كنز لعشاق التاريخ والأدب والفن، وقد ترجمتها للعربية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم التابعة لجامعة الدول العربية في ٤٢ مجلدا، ثم قدمتها مكتبة الأسرة مرة أخرى، لكي تكون في متناول الجميع.
يتناول ويل ديورانت في الموسوعة: تاريخ نشوء الحضارات منذ بداية تكون نواتها الأولى، وهى على الترتيب كما يأتى مع تاريخ نشر كل منها: تراثنا الشرقي، حياة اليونان، قيصر والمسيح، عصر الإيمان، عصر النهضة، عصر الإصلاح الديني، بداية عصر العقل، عصر لويس الرابع عشر، عصر فولتير، روسو والثورة، عصر نابليون.
وقبل عرض بعض المختارات، أود أنْ ألفتْ نظر القارئ، إلى أنّ هذا المجهود الضخم، الذى استغرق 40 سنة، يتحتـم معه الإشادة بالسيدة زوجته (أرئيل ديورانت) التي ساعدته في تجميع وكتابة الموسوعة وتذكيره ببعض المحطات المهمة في تاريخ الشعوب..إلخ.
ديورانت كان شديد الموضوعية، وتميــّـز بدرجة عالية من الأمانة العلمية.. وهو ينقل للقارئ ما كتبه المؤرّخون الذين اعتمد عليهم، حتى ولو كانت الواقعة ضد معتقداته الشخصية، بمعنى أنه كان شديد التجرد عندما (راقب نفسه) حتى لا يخلط ما هو (شخصي) بما هو (تاريخي)، وعلى سبيل المثال فبالرغم من جنسيته الأمريكية وديانته المسيحية.. ووعيه واعترافه بأنّ الأوروبيين هم الذين طردوا أصحاب الأرض (الهنود الحمر)، فإنّ ذلك لم يمنعه من ذكر انتشار ظاهرة العبودية في أوروبا خلال القرن الثامن عشر الميلادي.
وإذا كانت مصر.. ومعها معظم دول العالم تعاني الآن من كارثة جائحة كورونا فإنّ وباء الطاعون هاجم سكان مرسيليا عام1720، وأهلك ثلث مواطني المدينة.. وفرّ منها معظم الأطباء والقضاة.. وفى عام 430 ق. م هاجم وباء الملاريا سكان أثينا، واستمر لمدة ثلاث سنوات.
وعن المعاناة التى لاقاها كل من رغب في اعتناق الديانة المسيحية، مع بدء انتشارها في الإمبراطورية الرومانية (قبل الاعتراف الرسمي بالمسيحية ديانة رسمية - بإعلان ميلان عام 313 - بعد أنْ اعتنق الإمبراطور قسطنطين المسيحية) يشير ديورانت إلى أنه قبل هذا التاريخ كان حكام الرومان (فى كل الولايات التابعة لروما) يعاملون كل الذين اعتنقوا المسيحية بمنتهى القسوة، ومن أمثلة ذلك أنّ أسقف أنطاكية (أغناقيوس) أنشأ أسرة قوية من (الآباء) الذين وهبوا المسيحية فلسفة غلبوا بها أعداء المسيحية، وكان من بينهم (جـُـستين) الذى حــُـكم عليه بأنْ "يــُـلقى للوحوش" وكانت جريمته (من وجهة نظر حكام روما) أنه رفض أنْ يرتد عن دينه، ويتخلى عن المسيحية.. ويعود إلى الديانة القديمة، التي كانت روما تعتنقها.. ولما أخذوه إلى روما لمحاكمته، كتب وهو في طريقه عددًا من الرسائل تفيض إخلاصــًـا وحماسة.. وتكشف عن عمق الإيمان وهو يواجه الموت.. ومن بين هذه الرسائل كتب جستين: "فليعلم جميع الناس أنى أموت طائعــًـا في حب الله، وأتمنى ألا يتدخل أحد ليحول بيني وبين الموت.. وأتوسل إليكم ألا تأخذكم بي رأفة، بل اتركوا السباع تنهش جسدي، حتى أستطيع عن طريقها الوصول إلى الله.. وأرجوكم أنْ تغروا الوحوش لكي تلتهمني، فلا تترك قطعة من جسدي، حتى إذا نمتُ نومي الأخير لا أكون عبئــًا على أحد من الناس، ما أشد شوقي إلى الوحوش التي في انتظاري، فليكن من نصيبي التقطيع وتهشم العظام وبتر الأطراف.. وأقسى أنواع العذاب، إذا كنتُ بهذه الوسائل سأصل إلى يسوع".
ولعلّ ما حدث من تعذيب وحشي لكل من أراد اعتناق المسيحية، جعل ديورانت يعقب بجملة قصيرة،.. ولكنها ثاقبة وعميقة، فقال: إنّ روما ((قضتْ نحبها وهى تلد المسيحية)) وكان من الذكاء عندما مهــّـد في المجلد المعنون (قيصر والمسيح) عن أسباب (سقوط وانهيار الإمبراطورية الرومانية)، حيث ذكر أنّ (نيرون) المنحدر من أسرة عــُـرفت بالتوحش والفسق ومضاجعة المحارم.. وأنّ أمه شاركتْ في إفساده، حيث عوّدته على اللجوء إليها كلما أنــّـبه مدرسه، فكانت تحنو عليه ولا تهتم برأي المدرس.
وقد حاول الفيلسوف (سنكا) أنْ يــُـنشئه على حب التواضع والبساطة.. ولكن هذا لم يؤثر في تغيير طباعه التي زرعتها أمه فيه، وعندما مات الحاكم (كلوديوس) لم تجد أمه (أجربينا) صعوبة في تثبيته على العرش.. وانهمك نيرون في ملذاته الجنسية وسهراته العبثية.. وكل أفعال المجون والفحش والرذيلة.. وكان يحتقر آلهة روما.. ولم يحترم منصبه كحاكم لمدينة كبيرة مثل روما، فكان يتخفى ويتنكر في ملابس العامة ليزور المواخير.. ويتردّد على الحانات ليلا في صحبة أمثاله من رفاق السوء.. وذكر ديورانت أنه من عجائب وتناقضات شخصية نيرون: أنّ المرء يصعب عليه أنْ يصـدّق أنّ هذا الإنسان الذي قتل أمه ((شاب في الثانية والعشرين من عمره، ومغرم بالشعر والموسيقى والفنون الجميلة والتمثيل.. وأهم ما كان يرغب فيه هذا المخلوق الغريب، هو أنْ يكون فنانــًـا عظيمـًـا.
ونظرًا لكثرة أفعاله الشاذة فإنّ مجلس الشيوخ ارتاع وانزعج من تصرفاته، خاصة وأنّ هذا الحاكم الشاذ أفقر خزانة الدولة.. وفي يوم 18 من شهر يوليو عام 64م شبــّـتْ النار في إحدى الأبنية الضخمة.. وانتشرتْ سريعــًـا وظلتْ مشتعلة لمدة تسعة أيام، حتى التهمتْ ثلثي المدينة.. ورأى نيرون القصور القائمة تلتهمها النيران.. وآلاف المواطنين تحت الأنقاض.. وهام مئات الآلاف على وجوههم في الشوارع.. وهم يستمعون إلى الشائعات القائلة إنّ نيرون هو الذي أمر بإشعال النار في المدينة.. وكان تعقيب ديورانت أنّ هذه المعلومة (عن الشائعات) ذكرها المؤرخ (ناستس) والمؤرخ (سوتونيوس) والمؤرخ (رديو كاسيوس) واتهموا نيرون بأنه هو الذى أشعل النار، لكى يحقق حلمه ((ببناء روما الجديدة)) وبلغتْ موضوعية ديورانت أنْ كتب ((وليس لدينا ما نستند إليه في إثبات التهمة أو نفيها عن نيرون))، ولكن أفعاله الشريرة الكثيرة مؤكــّـدة، خاصة لأنه كان يستمع إلى شهادات المجرمين والسفلة ضد المسيحيين، فكان نيرون يأمر بالقبض عليهم.. وتعذيبهم في السجون.. وصلب بعضهم وأطلق الكلاب المتوحشة والمدرّبة على بعضهم لتلتهمهم.
وعن الثورة الصناعية فإنّ ديورانت شرح (ظروف التمهيد) لهذه القفزة من المجتمع الإقطاعى إلى المجتمع الرأسمالي والصناعي، حيث تركــّـز التقدم في البداية ((على تكنولوجيا أدوات الزراعة.. وعلى المزارع الشاسعة.. واستصلاح الأراضي البور لزراعتها.. وتدريب العمال على مهارات الزراعة باستخدام الأدوات الحديثة.. وتشجيع اختراع الآلات والوسائل الجديدة.. وتحفيز إجراء التجارب على تربية الحيوانات على أسس علمية.. وتطهير الغابات وتجفيف التربة.. ونتج عن ذلك أنه بين عامي 1696، و1795 تمّــتْ إضافة نحو مليوني فدان إلى المساحة المزروعة في بريطانيا وويلز.. وفى عام 1730 تـمّ تصنيع المحراث (ذى أربعة قواطع) وكان إنجازًا هائلا في تطوير الزراعة، كما تطوّرتْ صناعة الغزل والنسيج، بعد استعمال الآلات الحديثة والاستغناء عن الآلات القديمة.. وبالتالي زاد الإنتاج.. وذكر أنّ اختراع (المكوك الطائر) الذى ابتكره (جون كى) عام 1733 كان أول اختراع بارز في إنتاج المنسوجات. وأنه يـعتبر بداية الثورة الصناعية.
ومن الأمور اللافتة للنظر أنّ ديورانت عندما تعرّض لظروف العمال في المصانع، وعلاقتهم بأصحاب رأس المال، ردّد نفس كلام كارل ماركس عن الاستغلال الواقع على العمال، سواء من حيث الأجور أو من حيث عدد ساعات العمل.. وعلى سبيل المثال كتب ديورانت: كانت حجة أصحاب العمل أنّ العمال لايستحقون أكثرمن هذه الأجور، لأنهم ((أدمنوا الكسل والاستهتار.. وأنّ الفقراء ليس لديهم ما يحفزهم للعمل النافع.. وعدد ساعات العمل كانت من 11- 13 ساعة في اليوم.. وكان أصحاب العمل يحبون أنْ يكون لديهم (رصيد) من العمال المتعطلين، لكي يعتمدوا عليهم في (حالة الطوارئ) وأنّ العمال نتيجة هذه الظروف القاسية، اضطروا إلى تنظيم أنفسهم.. وفي البداية لجأوا إلى البرلمان.. ولما اكتشفوا أنّ أعضاء البرلمان معظمهم من الرأسماليين.. ولم يتعاطفوا مع مطالبهم، بدأوا التفكير في إنشاء (نقابات) تدافع عن مصالحهم.
نجد أيضًا ديورانت ذكر في معظم المجلدات دور مصر الحضاري.. واعترف بفضل مصر على الحضارة اليونانية.. وأنّ كثيرين من العلماء والفلاسفة اليونانيين زاروا مصر.. وعاشوا فيها بالسنين وتعلموا من الحكماء المصريين.. وعلى سبيل المثال عاش في مصر (طاليس) و(صولون) ومن الذين مكثوا طويلا في مصر (فيثاغورس) الذي عاش فيها طوال 22 سنة.. وأفلاطون عاش في مصر 13 سنة.. وذكر ديورانت أنّ أحد الشعراء اليونانيين واسمه (بندار) قال إنه ذهب إلى مهبط وحي الإله المصري (آمون) ليسأله: ما أحسن الأشياء بالنسبة للإنسان، فقال: أنْ يمتنع عن الكذب.. وقال: إنّ المصريين شبــّــهوا الكذب بفضلات الكائنات الحية.
وذكر ديورانت أنّ الإسكندر الأكبرعندما غزا مصر، توجــّـه إلى واحة سيوة حيث معبد الإله آمون.. واعتبره أنه هو والده.. وليس والده البيولوجي (فيليب) وذكر ديورانت أيضًا أنّ أقدم القصص ((هي القصص المصرية)) وذكر بتوسع دور (أفلاطونيس) المصري وفلسفته في أثناء الحكم الروماني.. وهو شاب مصري (قبطي)، وقد اهتـمّ بالفلسفة منذ أنْ كان في الثامنة والعشرين من عمره.
وذكر ديورانت أنّ البعض كتب أنّ مصر كان يحكمها (ملوك طغاة) فكتب المترجم (محمد بدران) أنّ ((هذه إحدى الأكاذيب التى يروّجها المؤرّخون دون تحقيق.. والتي يــُـكذّبها تاريخ مصر تكذيبــًـا قاطعــًـا، فقد نعمتْ مصر في جميع أدوار تاريخها بعصور من الحرية.. وإذا كانت مصر قد خضعتْ في بعض الأحيان لغيرها من الدول، فإنّ معظم الأمم لم تسلم من هذا الخضوع والغزو.. ولكن من المهم التوقف أمام مصر، حيث إنها امتصتْ الغزاة و((مصــّــرتهم)) وأخرجتهم من أرضها.. واحتفظتْ بطابعها وثقافتها وخصوصيتها، مع ما يقتضيه الزمن من تطور لابد منه.. وإذا كان قد حكمها ملوك أجانب، فإنّ هذا لم ينقص من استقلالها.. ولا من تميزها الحضاري.. ولطالما ثاروا طوال التاريخ على الطغاة والغاصبين.. وفى نفس الصفحة كتب ديورانت - كأنما ليرد على أعداء الحضارة المصرية: ((كان خليقــًـا بمصر أنْ تكون أسعد بلدان الأرض قاطبة، بسبب زراعتها وصناعتها ونهضتها في كل المعارف والعلوم.. ولعلّ ذلك من أسباب طمع الغزاة الذين احتلوا مصر في بعض فترات التاريخ)).
وعن تقديره لشخصية إيزيس كتب: كانت إيزيس رمز الأم الحزينة.. والمواسية المحبة.. وحاملة هبة الحياة الخالدة.. وكانت تلقى التكريم في أكثر دول العالم.. وكانت كل شعوب البحر الأبيض المتوسط، تعرف كيف مات زوجها العظيم.. وكيف قام بعد وفاته.. وكان يــُـحتفل بهذا البعث السعيد في كل مدينة قائمة على شواطئ هذا البحر التاريخي، أروع احتفال.. وكان المصريون يقولون: لقد قام أوزير.. وكانوا يرمزون لإيزيس بصور وتماثيل.. وهي تحمل بين ذراعيها ابنها الإلهي (حورس) ويــُـسمونها في الأدعية (ملكة السماء) و(الطاهرة) و(رئيسة الديوان) وكانت الرمز العالمي لمعنى الأمومة.. والوفاء للزوج..ورمز الرأفة والحنان.. وانتشر الحب والولع بإيزيس من مصر إلى بلاد اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد، ثـمّ انتشر إلى صقلية.. وفي إيطاليا في القرن الثاني الميلادي.. وبعد ذلك انتشر تقديسها في جميع أجزاء الإمبراطورية.. وقد عــُـثر على صورها المقــدّسة على ضفاف نهري الدانوب والسين.. إلخ..
ويل ديورانت قال عن الإسلام منصفا له: لقد رفع هذا الدين من مقام المرأة في بلاد العرب وقضى على عادة وأد البنات وساوى بين الرجل والمرأة، وقال عن سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم): إذا ما حكمنا على العظمة بما كان للعظيم من أثر في الناس لقلنا إن محمدًا كان من أعظم عظماء التاريخ.
وهذا باختصار شديد.. ما كتبه ديورانت، مما يدل على سعة وعمق ثقافته من ناحية.. ومن ناحية أخرى شدة موضوعيته وأمانته العلمية.
[email protected]
نقلا عن مجلة "ديوان الأهرام"