فى عصور البراءة كانت القصص والأساطير تجعل نهر النيل معبودا مقدسا فى مصر والحبشة، لم يكن المصريون يعلمون من أين جاء النهر إلى أراضيهم، ولا الإثيوبيون يعرفون إلى أين ذهب، تلك الحالة جعلت شاعرا بحجم أحمد شوقى يبدع، ومطربة بعظمة أم كلثوم تغنى: من أي عهد في القرى تتدفق .. وبأي كف في المدائن تغدق ومن السماء نزلت أم فجرت .. من عليا الجنان جداولا تترقرق!
وحين دخلت مطامع ساسة إثيوبيا من الباب خرجت براءة النهر من الشباك، وقررت أديس أبابا فى 2011 تحويل انسياب النيل إلى جلطة حملت اسم سد النهضة هدفه تحويل المياه الجارية منذ الأبد إلى سلعة مثل البترول تستخرج وتباع وتنضب، واضطرت مصر بعد 9 سنوات من التفاوض لإحالة أوراق حقوقها التاريخية إلى مجلس الأمن فى 29 يونيو الماضى، وأمس الإثنين انتهت مهلة الأسبوعين التي أعطاها السيد سامح شكرى لمجلس الأمن للتوصل إلى اتفاق عادل حول سد الأزمة دون أى تراجع حقيقى إثيوبى عن إلحاق الضرر بدولتي المصب فى المفاوضات التى ترعاها جنوب إفريقيا، لتتحقق نبوءة كتاب جديد بعنوان: «سد النهضة.. لعبة بنوك المياه فى حوض النيل»، للكاتب الصحفى مصطفى خلاف، الكتاب الذى صدر منذ شهر تنبأ بلجوء مصر إلى مجلس الأمن لبحث تهديد سد الأزمة للسلم والأمن ببنائه دون إخطار مسبق وإصرار الحكومة الإثيوبية على الانفراد بالتشغيل كما انفردوا بالبناء للوصول إلى لعبة بيع المياه على حساب الحقوق التاريخية لمصر والسودان!.
ورغم أن صدور الكتاب سبق جلسة مجلس الأمن لكنه أجاب عن تساؤل حيرنى خلال الجلسة: ما معنى أن تتقدم مصر بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن، ويشرح وزير خارجيتنا سامح شكرى السجل القانونى لحق مصر والسودان التاريخى فى مياه النيل منذ توقيع اتفاق 1902 بين مصر وبريطانيا وإثيوبيا الحرة المستقلة، إلى أن أتمت إثيوبيا بناء سد الأزمة وبدأت إجراءات تشغيله وحجز المياه بما يهدد حياة مائة مليون مصرى، فيرد المندوب الإثيوبى فى نفس الجلسة بأن على مصر أن تشرب من البحر الأحمر أو البحر الأبيض وتترك النيل الأزرق لبلاده التى لا يزال أبناؤها يعيشون بلا كهرباء؟.
فهل المندوب الإثيوبى يقصد «اللى مش عاجبه يشرب من البحر»، أم هو توجه انتهازى أشر يعتبر مياه النيل وكل الأنهار ملكية خاصة لدول المنابع، أما دول المصب فليس أمامها إلا الاعتماد على مدى توافر البدائل.. فلا بأس أن يكون البديل مياه الصرف الزراعى او مياه المجارى أو تحلية مياه البحر؟
وهذا التوجه والغطرسة الإثيوبية يضعان الدولة المصرية أمام خيارات صعبة ومفتوحة، فلم تعد المشكلة فقط مدة الملء الأول ولا كميته ولا فترات الجفاف الممتد لكنها مصادرة حق مصر والسودان فى النيل!.
الكتاب يفرق بين اتفاق المبادئ الذى وقع فى مارس 2015 حول سد الأزمة وتأثيراته المحتملة كما وصفه الخبير القانونى السودانى أحمد المفتى، وبين حق مصر والسودان الشرعى والقانونى فى استخدامات مياه النيل الذى تضمنته الاتفاقيات الدولية التى لا تستطيع إثيوبيا المساس بها مثل اتفاقية 1902 التي اخذت إثيوبيا بموجبها أرض بنى شنقول السودانية، المقام عليها السد، مقابل التزامها بعدم تشييد منشآت مائية، واتفاقية عنتيبى التى تضمن الأمن المائى لدولتي المصب!
والآن.. ليس أمام مصر والسودان إلا طلب الوقف الفورى لمشروعات سد الأزمة لأنه أخل بمبدأ الإخطار المسبق طبقا للاتفاقيات الدولية المنظمة للسدود على الأنهار المشتركة، حيث تم التعاقد بالأمر المباشر والبدء فى الإنشاءات فى أبريل 2011، وبسبب هذا تحول السد من مشروع غير قانونى إلى مشروع هندسى، وهو ما يفسر الحملة الإعلامية الإثيوبية لاختلاق شهادات خبراء وجيولوجيين، منها شهادة مزورة نسبت للدكتور فاروق الباز ونفاها فورا عن متانة أعمال السد، ليلة جلسة مجلس الأمن متناسين أن السد ليس مجرد بناء متين لكنه حقوق مائية ونشاط اقتصادى واجتماعى، وفى هذه النقطة تستطيع مصر والسودان مطالبة مجلس الأمن بالوقف الفوري لأعمال الإنشاءات لمخالفتها الشرائع الدولية وتهديدها طبيعة الحياة والسلام الاجتماعى!
ويتنبأ المؤلف بحتمية العودة إلى مجلس الأمن للوصول لتسوية الأزمة بسبب اتفاق 2015 الذى نص على: يجوز للدول الثلاث مجتمعة فقط طلب التوفيق أو الوساطة، وهو نص يحرم السودان ومصر من اللجوء إلى أى طرف دولى دون موافقة إثيوبيا، لكنه لا يحرمهما من اللجوء لمجلس الأمن، لأن إنكار الحقوق ورفض حل النزاعات بالتوفيق أو الوساطة وتهديد حياة المجتمعات معناه إعلان الحرب وتهديد السلم العالمى، ومجلس الأمن هو الجهة المسئولة عن سلامة سريان النيل وهل بأمر الله نزل منذ الأزل أم بأمر آبى أحمد يترقرقُ؟!
* نقلًا عن صحيفة الأهرام