في حياتنا كثيرًا ما تتعرض لأزمات ومشاكل بعضنا قد لا يتحملها فيجزع وينفعل مما يجعله يرتكب أخطاء يندم عليها، وبعضنا يصبر ويلجأ الى الله لينجيه من محنته، فالصبر هو قدرة الإنسان على تحمّل ما لا تطيق نفسه.
وقد وعد الله تعالى عباده الصّابرين بالأجر والثّواب العظيم في أكثر من سورة وآية؛ حيث أعدَّ لهم جنّاتِ النّعيم، وعوّضهم أجر صبرهم وأعطاهم من الجزاء أضعاف ما تمنّوا ممّا صبروا عليه، ويظهر أثر الصّبر على العبد في الدّنيا قبل الآخرة؛ فيعوّضه الله بما هو خير له، فيوسّع له في رزقه، ويجعل له بركةً في كلِّ شيء، وينقله من البلاء والشّقاء إلى النّعيم والعطاء.
جزاء الصابرين كبير
حينما أمرنا الله تعالى بالصبر وحثّنا عليه، نجده سبحانه قد بيّن لنا بعض ما فيه من الجزاء والأجر الكبير، فقد قال تعالى : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) فلم يحدّد الله جزاءً محدّداً للصابرين وإنما هو كثير بغير حساب، ولو لم يكن للصبر إلّا هذا الفضل لكفى.
وكذلك فقد وصف الله الصابرين بالمتقين، وهم كذلك في معيّة الله وحبّه ونصره.
والصبر أعظم وسيلة لتكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، ومحو الخطايا، ودخول الجنّة، وهذا من أعظم ما يجنيه العبد من الصبر، دلّ على ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ*جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ*سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).
صبر أيوب .. صبر على الأقدار
الصبر يكون على ثلاثة أنواعٍ، الصبر على الأقدار، الصبر عن معصية الله، والصبر على طاعة الله.
فمن الصبر أننا حين نمر بأمرين في حياتنا؛ إمّا سراءٌ وإمّا ضراءٌ، نسارع في السراء الى شكر الله، ونعلم أنّ هذا من فضل الله، فنحمده على ما أنعم علينا من نعم الدنيا والآخرة الظاهرة والباطنة، أما في الضرّاء فنحاول أن نكون من الصابرين، فالله تعالى هو الذي خلق الإنسان، وهو أعلم به، يدبّر أمره، ويفعل به ما يشاء، وما على الإنسان سوى أن يرضى بقضاء الله تعالى، ويستسلم له، وممّا يهوّن عليه؛ أن يتذكّر فضل ما هو فيه، ويقارنه بما ابتُلي به غيره.
يقول الرسول عليه الصلاة والسّلام : (عجباً لأمرِ المؤمنِ، إنّ أمرَه كلَّه خيرٌ، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمنِ؛ إن أصابته سراءُ شكرَ، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيراً له).
وأشهر من يقرن اسمه بهذا اللون من الصبر هو نبي الله أيوب عليه السلام، حينما أصابه ضر عظيم في بدنه وأهله وماله فصبر، فخلد ذكره في القرآن و ذكر له من ألوان التكريم وأوسمة الشرف ما هو جدير بمثله لعظيم صبره، فأولهما تكريمه بتخليد ذكره ومباهاة الله به عند رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وثانيه: تكريمه بقوله ((عبدنا))، حيث أضافه إليه، والعبودية من أشرف أوصاف الإنسان التي يتحلى بها، وثالثها: عندما استجاب نداءه وكشف ضره ووهب له أهله ومثلهم معهم، ورابعها: حينما جعل له مخرجاً من يمين حلفه على امرأته فكرمت وكرم بما يخلصه من مأزق الحنث، وكانت خاتمة ذلك هذا الوسام من الشرف العريض ((إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أواب))، فوصفه بالصبر حتى قرن الصبر بأيوب فلا يذكر إلا وهو معه، ثم قال: نعم العبد فكانت شهادة من الله بتمام عبوديته، ثم ختم ذلك بقوله إنه أواب، والأواب: المبالغ في شدة رجوعه إلى الله تعالى.
صبر يوسف .. صبر عن المعاصي
ومن الصبر كذلك أن نصبر عن المعاصي؛ فإنّ ذلك يحتاج منا مشقّةً ومجاهدةً للنفس، ولا يصحّ من العبد أن يكون صابراً عن بعض ما هو محرّمٌ، ومنهمكاً في غيرها من المحرمات.
وأبرز الأمثلة وأشدها وضوحاً على الصبر على المعاصي هو صبر يوسف عليه السلام على مراودة امرأة العزيز، لقد كان الصبر ظهير يوسف في محنته التي ابتلي بها اضطراراً واختياراً وكشف عن هذا حين عثر إخوته عليه فقال: ((أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين))، لقد رفض كل العروض والإغراءات وخرج من الفتنة بإيمانه وصبره.
يقول ابن القيم نقلاً عن شيخه ابن تيمية رحمهما الله: "كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا، ومحاربة للنفس.
ومن الصبر أيضا الصبر على طاعة الله، فإنّها تحتاج منا أن نجاهد أنفسنا ونبذل الجهد حتى نؤدي ما أمرنا الله تعالى بالقيام به، وكلّ ذلك يحتاج إلى صبرٍ.
صبر أولي العزم .. صبر على طاعة الله
لقد ضُرب لنا في القرآن نماذج رائعة تجسدت فيهم حقيقة الصبر، واستحقوا أن يذكروا بصبرهم فيقتدى بهم الصابرون، فمن أعظم وأجلّ ما جاء في الصبر؛ صبر أولي العزم من الرسل على مشاقّ الدعوة إلى الله، وما تحمّلوه من الأذى في سبيل ذلك، فهاهو نوح -عليه السّلام- قد صبرألف سنةٍ إلّا خمسين عاماً وهو يدعو قومه، وكذلك نرى صبرأبا الأنبياء إبراهيم -عليه السّلام- على أبيه وقومه وتحمّله منهم صنوف الأذى، فقد جُمع له الحطب الكثير وأوقد وألقي في النار، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، أما موسى -عليه السّلام- فقد صبر كثيرا على أذى فرعون له وجبروته عليه، وكذلك نجد عيسى -عليه السّلام- صابرا على ما لقيه من أذى بني إسرائيل وتكذيبهم له، فقد أرادوا أن يقتلوه ويصلبوه، لكنّ الله نجّاه منهم ورفعه إليه، ثم نجد الوصيّة قد نزلت على نبينا محمدٍ -عليه أفضل الصّلاة والسّلام- من الله تعالى، فقال له: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ).
نبينا يحثنا على الصبر
وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكثير من الأحاديث في ذِكر ضرورة الصبر وفضله وأهميّته، ومكانة الصابر والصابرين في الإسلام، ومنها ما بين أن الصبر بابٌ لتكفير الخطايا والذنوب والسيئات؛ حيث روي أنّ - النبي صلى الله عليه وسلم - قال: (ما يصيبُ المؤمنَ من وصبٍ، ولا نصبٍ، ولا سقمٍ، ولا حَزنٍ، حتَّى الهمَّ يُهمُّه، إلَّا كفَّر به من سيِّئاتِه).
وروى البخاري بسندٍ صحيح أن - النبي صلى الله عليه وسلم - قال: (ما مِن مصيبةٍ تصيبُ المسلِمَ إلَّا كفَّرَ اللَّهُ بِها عنهُ، حتَّى الشَّوكةِ يُشاكُها).
وكذلك فإن من يبتليه الله فإنّه يرد به بذلك خيراً، فقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: (من يُرِدِ اللَّهُ بِه خيرًا يُصِبْ مِنهُ)، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيضاً في روايةٍ أخرى: (إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ تعالَى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضِي فله الرِّضا ومن سخِط فله السُّخطُ)
وقد روي أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه وولدِه ومالِه حتَّى يلقَى اللهَ تعالَى وما عليه خطيئةٌ).
وأيضا فبالصبر يزداد المسلم قرباً من الله تعالى، فالمسلم إذا كان الله قد اختار له مَنزلةً رفيعةً عنده ثم لم يُبلغها بالعمل الصالح فإن الله يبتليه بمرضٍ في جسمه أو أحد أولاده، حتى يصل إلى تلك المنزلة إن صبر على البلاء، وقد رُوي في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إنَّ العبدَ إذا سبقت له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغْها بعمله ابتلاه اللهُ في جسدِه أو في مالِه أو في ولدِه ثم صبَّره على ذلك حتى يُبلِّغَه المنزلةَ التي سبقت له من اللهِ تعالى) .
"فيا نفسُ صبراً فعُقْبَى الصبرِ صالحةٌ لا بدَّ أن يأتي الرحمنُ بالفرجِ"
سورة يوسف كامله بصوت القارئ ماهر المعيقلي