Close ad

هل تتطور الأخلاق؟

11-6-2020 | 20:10

هل يمكن أن نقول بثقة وملء الفم إن القيم الأخلاقية واحدة وثابتة، أو مطلقة وعامة لا تتطور ولا تتغير على مر الزمان والمكان؟

في الحقيقة من الصعب أن نؤكد ذلك.. فالأخلاق وإن كانت تحمل فى طياتها سمات وصفات عامة مشتركة بين الأفراد في كل بقاع الدنيا مثل الأمانة، والصدق، الشرف، الاحترام إلخ. إلا أن القيم الأخلاقية بدورها تتغير وتختلف مع مضي الزمن..

القيم الأخلاقية هي معايير تترجم إلى سلوكيات مجتمعية تعكس أفكار المجتمعات وتوجهاتها.. على سبيل المثال في زمن بعيد كان خروج المرأة للعمل يعد أمرًا غير مقبول لدى العائلات الميسورة، إذ كانت الأعراف في كل المجتمعات تؤكد أن مكان المرأة الأول والأخير هو البيت وواجبها الأساسي رعاية بيتها وأسرتها.. الآن تغيرت تمامًا هذه النظرة، ليس فقط هذا؛ بل أصبحت المرأة ضلعًا أساسيًا في عملية الإنتاج وعاملًا فعالًا في عجلة اقتصاد الدول..

مثال آخر نسوقه هنا يؤكد نفس المعنى يتعلق بالأسرة وتربية الأبناء، كانت الأسرة قديمًا تحمل ملامح تكاد تكون واحدة في مختلف الأوساط الاجتماعية؛ حيث تتبدى سلطة الأب، فهو صاحب القرار الأول والأخير، إنه يشبه السلطان الذي يصدر الفرمانات المختلفة وعلى الجميع الامتثال إلى أوامره.. فى الصباح يقبل الأبناء يده، ويتحدثون إليه وهم خافضون الرأس، حتى لغة الحوار تحمل معها كلمات قليلة رصينة.. يقال له "حضرتك"، هى كلمة بسيطة حقاً لكنها تعكس معها المسافة التى بين الأب والأبناء.

وفى هذه الأجواء "المقيدة" ينشأ الأبناء، لا يستطيعون البوح بمشاعرهم الحقيقية ولا التعبير عن أفكارهم التي تجيش في صدورهم.. المهم هنا هو الغطاء "الأخلاقى" الذى يضفى هالة الاحترام على علاقة الأب بالأبناء. هذا الوضع كان قائمًا على أساس اعتبار الأبناء مملوكين للآباء، ولكن اليوم الأبناء لهم حقوق يلتزم الآباء باحترامها مثل الحق في التعليم والمشاركة في التعبير عن رأيهم فيما يخص حياتهم.

ومن الأمثلة المهمة التى يمكن أيضًا رصدها في هذا السياق: العلاقات الاجتماعية بين الشباب من الجنسين، هذا الانفتاح الذي حدث على مر السنوات، لم يكن فى الحقيقة طفرة مجتمعية فجائية، بل كان نتاج تطور في سلوكيات الأفراد، خاصة الشباب، وربما كان استجابة للتقدم التكنولوجى والصناعي.

فنحن في مجتمع صناعي لا يمكن أن نعيش بقيم وسلوكيات المجتمع الزراعي، ولهذا يمكن القول بأنه قد حدثت "ثورة" مجتمعية؛ حيث تبدلت واختلفت الكثير من الأعراف والقيم الأخلاقية التي كنا نظنها ثابتة لا تتغير.. أصبح الاختلاط بين الجنسين أمرًا طبيعيًا بل وعاديًا لا يدعو إلى الدهشة.. في الجامعة.. في وسائل المواصلات العامة.. في اللقاءات الثقافية والمناسبات المختلفة.. الخ.

فرض إذن التطور في الحياة الاجتماعية العامة معه فكرة الاختلاط.. وأصبح لا مناص من التعامل المباشر بين الشاب والفتاة.. بالطبع ساهم التعليم فضلاً عن أدوات الثقافة المختلفة من سينما ومسرح وتليفزيون، إلخ. في زيادة الوعي ونشر ثقافة الانفتاح في المجتمع، وتغيير العادات والسلوكيات، ومن ثم تغيير النظرة في مفهوم القيم الأخلاقية..

الحياة الحديثة بكل روافدها عكست معها نظرة جديدة للأخلاق معيار مختلف للسلوكيات.. فإذا كان المجتمع، على سبيل المثال، يقف في صف تعليم البنات وحقهن في العمل، فإن مفهوم الاختلاط يطرح نفسه بشكل تلقائي وطبيعي، ويصبح أمرًا مفروغًا منه مع رواج هذا الشعار..

الفتاة الشابة التى تذهب إلى الجامعة للدراسة، أو إلى العمل، تركب الميكروباص أو ربما المترو كوسيلة مواصلات، تتواصل بالطبع فى خضم حياتها الاجتماعية العامة مع الشباب والرجال.. حسنًا هل يمكن أن يعترض أحد على سلوكها هذا ويستنكره؟ بالطبع لا.. ومع ذلك فإن هذا السلوك كان مرفوضًا في كثير من المجتمعات خلال تاريخ طويل وحتى القرن التاسع عشر.أي ببساطة ما كنا نعتبره عيباً صار اليوم أمرًا مقبولًا، هكذا إذن تتغير المعايير الأخلاقية المجتمعية وتتبدل مع مضي الأزمنة والعصور..

قد يرى البعض أن الأديان ترفض هذه المظاهر السلوكية الحديثة، لكننا نعلم جميعًا أن الأديان فى مختلف بلدان العالم قد أقرت بحق المرأة فى التعليم والعمل وهو ما يستدعي بالضرورة قبول الأديان بالصور الجديدة في السلوك في عالمنا المعاصر..

فى النهاية نؤكد أمرًا مهمًا، فرغم هذا الانفتاح الذى حدث فى سلوكيات المجتمع إلا أن ذلك لا يعنى الإطاحة بالقيم الأخلاقية التي ينبغي مراعاتها في السلوك الاجتماعى، فمازلنا نميز بالتأكيد بين السلوك الأخلاقى المحترم والسلوك المنحرف..

فقط نريد أن نؤكد هنا فى هذا المقال أن التطور المجتمعى فرض معه قيما أخلاقية جديدة لم تكن معروفة قبل آلاف السنوات، وصارت اليوم مقبولة ومباركة من قبل الأفراد.. أليس كذلك؟

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
ماما جميلة .. وبهجة الطفولة

احترت كثيرًا ماذا يمكنني أن أكتب عن أمي حبيبتي التي رحلت منذ أيام قليلة.. كيف تسعفني الكلمات والعبارات والألم موجع في القلب والنفس؟...

أدب لا ينطفئ بريقه

احتفظ أبي في رفوف مكتبته الكبيرة بمجلدات ألف ليلة وليلة.. ومن وقت لآخر كان يعيد قراءة فقرات منها بشغف ويظل يتأمل كلماتها مبتسماً ومعلقاً على أحداثها..

من أين يأتي الالتزام الأخلاقي؟

كثيراً ما طرحت على نفسي هذا التساؤل وأنا أتأمل أحوال الناس والمجتمع: من أين يأتي الالتزام الأخلاقي؟

الأخلاق والقانون

لماذا عندما تنهار المجتمعات وتعانى من مشكلات مختلفة: سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية يقفز الاتهام الأول دون منازع صوب الأخلاق، فيقول الناس وهم يتحسرون: