الفيدرالية ليست مشكلة فى حد ذاتها، وهناك نماذج دولية عديدة ناجحة لدول فيدرالية استطاعت أن تحفر لنفسها مركزا متقدما بين الأمم، وأن تتبوأ موقعا مرموقا فى عالم العلاقات الدولية، حيث المكانة والتأثير والفاعلية سواء على الصعيد الدولى أو فى محيطها الإقليمى ومجالها الحيوى.
ألمانيا خير شاهد حتى فى إدارتها لأزمة كورونا، لكن تجربة السنوات الماضية كشفت عن أن " الفيدرالية" فى عالمنا العربى لم تكن أبدا مدخلا لتعميم التنمية، أو تطوير الإدارة، أو توسيع المشاركة... بل كانت تعبيرا عن تعدد الأجندات والمصالح الخارجية فى بلادنا، سواء كانت لقوى دولية أو إقليمية.
تجربة الإقليم التى ما تزال فصولها حاضرة، كشفت عن أن الفيدرالية كانت تعبيرا عن انعدام قدرة المكونات الداخلية لدولنا وشعوبنا على العيش بعضها مع بعض، ومن ثم بدت وكأنها الطريق المختصرة نحو تقسيم البلاد، والنيل من النسيج الداخلى لشعوبها، وردة عن الانتماءات الوطنية الجامعة إلى حيث الانتماءات الطائفية والإثنية، أو الجهوية والمناطقية، والأخطر أن الفيدرالية عندنا ما تزال تشكل مدخلا رحبا لجولات جديدة من الحروب والنزاعات، وتشق طريقا (لا نهاية له) نحو مزيد من الانقسامات!
تطورات الأحداث فى كل ملفات وأزمات الإقليم المفتوحة تتجه صوب "الفدرلة"... فى اليمن وليبيا والعراق وسوريا يحدث هذا، أو تتكثف الدعوات والحملات لتحقيقه وتقنينه على الأرض.
فى ليبيا هناك، فى هذه الآونه، من يحاول توظيف التخريب والعبث الذى مارسته مرتزقة أردوغان بمدن غرب ليبيا خلال الإسبوعين الآخيرين، فى الدعوة إلى تقسيم ليبيا.. منصات قوى "الإسلام السياسى" وأقلام المحسوبين عليه يروجون الآن للحديث عن تقسيم ليبيا إلى أقاليم ثلاثة... يحدث هذا على الرغم من أن نتائج المعارك الأخيرة فى غرب ليبيا أبعد ما تكون عن الحسم لصالح مليشيا السراج، وكل ما أسفرت عنه يدخل (وفقا لحسابات العمليات العسكرية وموازينها) فى سياق عمليات الكر والفر التى لا تغير من جوهر المشهد أو تنفى عنه معالمه الأساسية، وأهمها أن تلك المليشيات لا يمكنها سوى إطالة أمد النزاع وفقط، وليس التقدم صوب مناطق سيطرة الجيش الوطنى الليبى فى شرق ليبيا، أو حتى دفع الجيش نحو التراجع إلى خطوط ما قبل إبريل عام 2019.
نعم هناك الآن من يريد توظيف نتائج فتح مستودعات السلاح التركي وخزائن المال القطري، ومعسكرات المرتزقة من فلول ما كان يُعرف بالجيش الحر وجماعات أصولية إخوانية وسلفية، وتدفقها نحو ليبيا، لكى يكرسوا فى وعى أبناء المنطقة وشعوبها أن زمن الدولة المركزية في ليبيا ولّى، وزمن "الفدرلة" و"الأقلمة" يلوح في أفق أزمتها الممتدة منذ العام 2011.
فى العراق، هناك فيدرالية قائمة بالفعل في شماله حيث "إقليم كردستان"... لكن وبعد الاشتباك الأمريكي – الإيراني الذي اندلع إثر اغتيال قاسم سليماني وما تلاه من أحداث، ارتفعت وتيرة الحديث عن "إقليم سني"... قبلها كانت أوساط شيعية تتحدث عن "إقليم" أو حتى "أقاليم" في المحافظات الجنوبية...
والمحصلة النهائية، أنه لا يمكن إسقاط سيناريو "الأقلمة" في العراق، بل يمكن القول إنه السيناريو الأكثر ترجيحاً، الذي ينتظر الإعداد والإخراج المناسبين للخروج إلى حيّز التنفيذ.
فى اليمن، ثمة تسريبات عن دوائر وثيقة الصلة بمارتن جريفيث المبعوث الدولى هناك، تحكى عن مشروع لـ"أقلمة" اليمن، ولكن إلى ثلاثة أقاليم فقط هذه المرة: واحدٌ لجماعة الحوثى في الشمال وعاصمته صنعاء. وآخر فى عدن وما حولها من مناطق ومحافظات، ليكون تحت سيطرة المجلس الانتقالى، والثالث في حضرموت وما يحيط بها من محافظات وبلدات... لكأن المشروع يسعى في التقسيم النهائى لأراضى اليمن لتصبح فى الحاصل الأخير "مناطق نفوذ مشروعة" للفاعلين الكبار في الأزمة اليمنية ووكلائهم المحليين، بعد أن تتم شرعنتها وتقنينها دستوريا!
واشنطن، دعمت وتدعم مشاريع "الفدرلة" عموماً... هي راعية إقليم كردستان، وهي صاحبة مشروع "فدرلة العراق"، وهي حاضرة بقوة في شمال شرق سوريا لرعاية "إقليم كردي" هناك، تحت مسمى "الإدارة الذاتية"، وهي ليست بعيدة عن مشاريع "فدرلة" ليبيا واليمن.
خلاصة تجربة الإقليم التى عايشناها – ومازلنا - طيلة السنوات الأخيرة، تؤكد بوضوح أن الإدارة الذاتية مدخل إلى "الأقلمة" والأخيرة توطئة للتقسيم... هكذا تسير التطورات في منطقتنا العربية!
ومع ذلك، وفى خضم كل هذه التجارب البائسة، جاءت دعوة "نيوتن" إلى الفيدرالية (وليست اللا مركزية الإدارية فقط) كخيار لعلاقة سيناء بالدولة المصرية، وإن لم يذكرها بالاسم، وتبنيه (من داخل هذه الدعوة) لوجهة نظر تزعم أن هذا الشكل من "الرابطة" بين سيناء ومصر لن يؤثر فى النهاية على تبعية "سيناء" للدولة المصرية على المدى البعيد، ولن يؤدى إلى تناقضات معها فى التوجهات الإستراتيجية على صعيدى الأمن والسياسة الخارجية.
"نيوتن" الذى تضم دائرة مستشاريه أسماء لامعة وخبراء كبارًا فى العلاقات الدولية، والنظم السياسية، لا نستسيغ أو نستوعب عدم درايته بأن سيناء بالذات، من بين مناطق كثيرة فى مصر، التى لا تتواءم مطلقا مع فكرة "اللامركزية" بكافة صورها، ناهيكم عن "الفيدرالية" ! كون سيناء تمتلك كل مقومات الانفصال: وجود مانع مائى.. منطقة تحوز أكثر من 30% من شواطئ مصر... إمكانيات سياحية هائلة.. ثروات معدنية.. غاز وبترول...إلخ
وكون سيناء خاصرة مصر الرخوة هى البؤرة التى وقع عليها "الاختيار" من قبل أعداء مصر وخصومها الإقليميين فى حربهم ضدها ومحاولة استنزاف وإفشال مسار ما بعد ثورة 30 يونيو 2013... وليس بلا مغزى أن الجزء الأكبر من عمليات التهريب غير المشروعة عبر الحدود الأخرى لمصر (الحدود الغربية والجنوبية) استهدفت تغذية ودعم النشاط الإرهابى على هذه الحدود الشمالية الشرقية بالذات.
إن محاولة التنصل من المسئولية التى أقدمت عليها شخصية لامعة بين دائرة مستشارى المدعو "نيوتن"، وادعائه بأن مقال "استحداث وظيفة" لم يطرح الفيدرالية، ولكن يقف عند حدود اللا مركزية وفقط، ليست محاولة بائسة وادعاء كاذباً وفقط، وإنما يكرس الانطباع بأن المقال المذكور إنما يعبر عن مشروع سياسى، ويتحرك وفق أجندة بعيدة عن جوهر التنمية وأهدافها، وأن كاتب المقال عندما أشار إلى نماذج كسنغافورة، وهونج كنج، لم تكن تلك الإشارة سوى محاولة منه لتوظيف جاذبية تلك النماذج فى تمرير أطروحته الملغومة.