تصاعد أزمة كورونا كشفت ضعف المنظومة الصحية في معظم دول العالم، وأيضًا ضعف منظومة البحث العلمي والتعليم في كثير من الدول؛ ومنها دول كبرى وعظمى، وبالطبع سوف يؤدي هذا إلى تغيرات كبرى على مستوى العالم في شكل العالم بعد كورونا.
يقول هنري كسينجر وزير الخارجية الأمريكي السابق - وهو من أشهر السياسيين - إنه على أمريكا والدول الرأسمالية أن تسرع بتعديل نظمها الداخلية؛ وخاصة الصحية للنجاح في عبور الأزمة، وكسب ثقة شعوبها، وأن أمريكا مسئولة أولا عن تحقيق ذلك، وأن يشعر المواطن أن الدولة قادرة على مواجهة الأزمة وحماية الشعب ونظامه وكسب ثقة الشعب في نظامه السياسي والاقتصادي؛ ولكن فشل الدولة في مواجهة الأزمة أمام مواطنيها قد يؤدي إلى سقوط الرأسمالية وتغير النظام العالمي.
وبالنسبة للعالم الثالث وبغض النظر عما قد تنتهي إليه أزمة كورونا من تغييرات عالمية؛ سواء في النظم الاقتصادية أو السياسية، فهناك تداعيات خطيرة على دول العالم الثالث عليها دراستها وسرعة التعامل معها؛ ومن هذه التداعيات المتوقعة أنه نتيجة ضعف المنظومة الصحية والعلمية سوف يكون هناك طلب متزايد من معظم الدول الغنية على المتخصصين والخبراء في المجال الطبي والبحث العلمي؛ من خلال عوامل جذب متعددة مثل منح الجنسية أو تأشيرات العمل والحوافز المادية والمرتبات المغرية؛ وهى ظاهرة تسمى بهجرة العقول أو الخبراء.
هجرة العقول هي ظاهرة قديمة؛ ولكنها سوف تزداد بلا شك في السنوات أو الشهور القادمة؛ مما يوجب علينا الاستعداد لها جيدًا؛ وذلك بالحد منها قدر الإمكان، ولتقليل الخسائر لأقل درجة؛ ومما يزيد من خطورة المشكلة لدى مصر تحديدًا عدة أسباب؛ منها أن معظم الدول المحيطة والشقيقة تعاني نقصًا شديدًا لديها في هذه التخصصات تحديدًا، ثم إن هذه الدول غنية وتستطيع منح مرتبات وحوافز كبيرة؛ خاصة أنه من الأفضل أن يكون الطبيب أو المدرس أو أستاذ الجامعة يتحدث بالعربية؛ لسهولة التواصل والتفاعل مع المواطنين، ثم هناك الأخطر داخليًا أن هناك عوامل طرد بالداخل؛ منها أن هذه الفئات تحديدًا الأطباء والمدرس وأستاذ الجامعة هم تقريبًا أقل الفئات في الأجور والمرتبات مقارنة بزملائهم في وظائف حكومية بلا أي مبرر، وهى مسئولية عقود سابقة وحكومات أهملت حقوقهم منذ السبعينيات.
وللأسف علينا الآن سرعة تعديل هذه المنظومة فلا يعقل أن يكون بدل العدوى للطبيب عشرات الجنيهات وهو يتعرض للموت، أو يكون راتب الطبيب ومجموع دخله بضعة آلاف قليلة، في حين أن زميله خريج كلية التجارة إذا عمل ببنك حكومي يكون راتبه أضعاف الطبيب المتفوق علميًا، وعانى سنوات دراسة أطول وأصعب، ونفس الشيء للمعيد المتفوق يعين في الجامعة براتب نحو ثلاثة آلاف جنيه، وزميله غير المتفوق يعين في أماكن حكومية أخرى بضعف راتبه، وأستاذ الجامعة القديم لا يصل راتبه إلى عشرة آلاف، وهناك وظائف حكومية لشباب يتعدى دخله أستاذ الجامعة ودخل ثلاثة أطباء أيضًا.
المهم أنه يجب سرعة دراسة وتعديل راتب هذه الفئات؛ للحفاظ بقدر الإمكان على أكبر عدد منهم داخل البلاد؛ وإلا خلال سنوات قليلة سوف نجد هجرة واسعة من جانب هؤلاء للدول المحيطة والدول الكبرى أيضًا؛ مما قد يستدعي استيراد مصر لأطباء ومعلمين وباحثين أجانب بأضعاف الثمن مستقبلا.
فالقضية خطيرة خاصة ونحن نعاني الآن نقصًا في هذه الكوادر، والمستقبل أخطر، وبالطبع هذه المشكلة ليست مسئولية النظام الحالي؛ بل ترجع بدايتها للسبعينيات وسياسات الانفتاح، وترسيخ مبدأ الجهة التي تكسب تحصل على رواتب أعلى؛ بينما خدمات التعليم والصحة لا تربح، وبالتالي لا تستحق راتبًا جيدًا هذا عكس الدول المتقدمة؛ حيث الطبيب والمعلم وأستاذ الجامعة أعلى الرواتب، بالطبع هناك مشكلة التمويل وعلينا البحث عن مصادر للتمويل ويمكن اقتراح عدة وسائل للتمويل؛ منها الضرائب التصاعدية؛ حيث تصل في بلجيكا إلى 54% وألمانيا 49% وفرنسا وإيطاليا والنمسا والمجر 48%.
وتتعدد الضرائب في أمريكا ومعظم دول العالم، وكل هذه الدول ليست لديها مشكلة في الاستثمارات؛ بل لديها استثمارات حقيقية وإنتاج للتصدير؛ بل هؤلاء يتبرعون لبلادهم بالمليارات ولا يتخلون عن بلادهم أو عمالهم وقت المحن، وآن الأوان لمراجعة سياسات الاستثمار والخصخصة في مصر وفزاعة هروب الاستثمارات، فما هي المحصلة النهائية لفتح الباب منذ السبعينيات للاستثمارات الخاصة؟ فقبل هذه السياسات كانت مصر تعتمد على المنتج المصري في معظم احتياجاتها من الثلاجة إلى البوتاجاز إلى الغسالة إلى التليفزيون إلى السيارة وخلافه، وبعد أكثر من أربعة عقود أصبحنا نستورد كل هذا، ماذا أضاف الاستثمار لمصر بعد الانفتاح سوى تدهور الاقتصاد من خلال تدهور قيمة العملة؛ حيث كان سعر الدولار عام 1936 "14" قرشًا، ثم ارتفع إلى 36 قرشًا عام 1951؛ أي فقد الجنيه في العصر الملكي نحو 157%، وكان سعره عام 1973 قبل سياسات الانفتاح 39 قرشًا؛ أي لم يفقد سوى نحو 7% فقط، وبعد ذلك مع الانفتاح كان الانهيار.
ومن ثم الضرائب التصاعدية أصبحت ضرورة؛ كوسيلة من وسائل تمويل الصحة والتعليم وخطوة في طريق العدالة الشاملة، وبعد ذلك هناك ضريبة الثروة؛ ففي أمريكا الرأسمالية اقترحت اليزابيث وارين - وهي نائبة في الكونجرس - فرض ضريبة ثروة 2% لمن يملك 50 مليون دولار، وترتفع إلى 3% لمن تزيد ثروته على مليار دولار، وأضاف النائب ساندروز ضريبة 8% لمن يملك أكثر من 10 مليارات دولار، وهذه ضريبة جديدة غير الضرائب العادية لمواجهة الأزمات الطارئة.
ثم هناك ضريبة البورصة وضرائب الاستهلاك الترفي للفنادق والقرى السياحية والسيارات الفارهة وخلافه، ثم قضية رفع أسعار الطاقة والخدمات للاستهلاك الترفي؛ فمثلا بنزين 95 ما زال سعره مدعمًا بمصر، لماذا لا يتضاعف سعره أكثر من العالمي؛ لأنه للأثرياء.
وكذلك الاستهلاك الكبير في الطاقة؛ فمثلا الكهرباء من يستخدم أكثر من ألف "ك" تفرض ضريبة 20%، ومن يستخدم أكثر من 2000 ضريبة 40%.. وهكذا تتصاعد، وأيضًا في المياه والغاز؛ فهذا ما يحدث في دول حرية السوق التي أصبحت محل مراجعة من أصحابها.. والله الموفق.