برغم أننا جميعًا نعانى من "كورونا"وبرغم هجومه الكاسح وأن "الفيروس" لا يفرق بين غنى أو فقير، وبين بلد متقدم وآخر نام، وبرغم أنه أكد فشل النظام العالمى الحالى، وأثبت أنه لا يساوى "جناح بعوضة" وأن تريليونات الدولارات التي أنفقتها دول العالم على صناعة الأسلحة، ذهبت هباء؛ وخاصة أسلحة الدمار الشامل، التي تسابقت الدول الكبرى في صناعتها والتي تبيد ملايين البشر، وظنت أن لن يقدر عليها أحد.
وهي اليوم بكل جبروتها وقوتها وعلمائها تقف عاجزة أمام فيروس صغير لا يُرى بالعين المجردة، وللأسف تهافتت الدول - حتى الفقيرة - على تخزين الأسلحة وتطوير قواها العسكرية بمليارات الدولارات التي كان من الأولى إنفاقها على العلم والعلماء، الذين تأكدت الحاجة إليهم في أزمتنا الحالية.
برغم كل الألم والحزن والفرقة والتشتت التي أحدثها هذا الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجردة، إلا أنه ترك فينا دروسًا وعِبر وعظات يجب أن نستفيد منها جميعًا، فقد كشف "كورونا" كل المستور والمسكوت عنه في السياسة والاقتصاد والدين والاجتماع، وكل نواحى الحياة، عرى "كورونا" الجميع، وفضح سوءاتنا، ومزق كل الأقنعة التي حاولنا كلنا أن ندارى بها تشوه وجوهنا، ونخفى غلنا وأحقادنا وسوء نوايانا تجاه بعضنا البعض دولًا وحكومات وشعوبًا.
وتعالوا نتحدث بصراحة بعيدًا عن الكلام المنمق والمذوق، فهنا لا تنفع أى محاولة للتجمل، فهى ستكون امتدادًا لكذبنا القديم، وأبسط دليل على ذلك ما حدث مؤخرًا من انحدار وسقوط اجتماعي وعار أخلاقي وإنساني خطير يدق كل أجراس الخطر، أقصد هنا بعض الأهالي بإحدى قري الدقهلية الذين خرجوا لمنع دفن طبيبة ماتت بوباء الكورونا، وهو تصرف لم يحدث في أي دولة بالعالم، ولا يمت بصلة لأخلاق المصريين، ولم يحدث حتى زمن الشدة المستنصرية نهاية عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في مستهل النصف الثاني من القرن الخامس الهجري.
نعم اشتقنا إلى الصلاة في المساجد، وتسيل دموعنا ندمًا ورغبة في أن نصلى الجماعة والتراويح في رمضان شهر القرآن الكريم، ولكن ها هو "كورونا" يخرج لسانه لنا ولكل من تغاضى عن شرع الله وسرق نصيب البنات في الميراث، وقطع صلة الرحم معهن ومع أولادهن، ومع ذلك حزين لأنه سيصلى في البيت، ولمن طلق زوجته ورمى أولاده في الشارع من غير نفقه ولا مصاريف، وغضبان لأنه لن يعمل عمرة في رمضان، وللموظف الذي يفتح درج مكتبه (ع البحري) للرشوة كل يوم ويبكيه منظر الحرم المكي وهو خال من الطائفين العاكفين، الركع السجود، وللطبيب الذي رفض أن يعالج سيدة مريضة، لأنها ليس معها 500 جنيه مقابل تذكرة عيادته، ومتأثر لأنه سيصلي الفجر في البيت!! وللمحامي الذي أحضر شهود زور، ووقف مع الظالم ضد المظلوم، وجعل الحق باطلًا والباطل حقًا، ودمعت عيناه عندما سمع المؤذن يقول صلوا في رحالكم!!
أخرج لسانه لصاحب فرن العيش، الذي لا يعمل إلا بعد نصف الليل ليغش ويقلل كمية الدقيق، حتى يجمع "فلوس" من حرام، وتضايق جدًا لأن الجامع مُغلق!! ولصاحب السوبر ماركت الذي استغل الأزمة ورفع الأسعار، ومع ذلك يقول "ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا"!! أليس هذا يحدث بينكم - هكذا يسألنا "كرونا"؟
حالنا لم يرض حتى هذا الـ" كورونا" الذي يرى أننا تسببنا في انتشاره بما فعلت أيدينا، وهذا ما عبر عنه الشاعر الشيخ عبد الله كامل في قصيدة طويلة منها هذه الأبيات التي تعبر تعبيرًا دقيقًا عن حالنا، يقول على لسان "كورونا":
مساجدكم شكت من طولِ هجرٍ.. وغاب الراكعون الساجدونَ
وكنت أظنكم قبل انتشاري إلى صلوات فيها تفزعون
فلا جُمعٌ تقامُ ولا صلاةٌ على أنوارها تتجمعونَ
وحى على الصلاة بكت عليها مآذنكمْ
وناح الخاشعونَ.. فصلوا في رحالكم انكماشًا وخوفًا علكم تتواضعونَ
وتُخلى روضة المختار منكم.. ويُحرمُ من جناها القاطفون
وكعبتكم على القصادِ تبكى.. ويُطرد عن حماها الطائفونَ
دموع الناسِ حول البيت تجري بنارِ حنينهم يتحرقونَ
سلوا الطاعون كيف يزور بيتًا حماه الله لو تتدبرونَ
فقلت: حرمتنا من كل شيءٍ فقال بما كسبتم تحرمون
فقلت: كفاك يا طاعون وارحل.. فكم يهوى لزمزمِ ظامئونَ
فقال ألم تكن فيكم شفاءً فأين الشاربون الصادقونَ؟!
تُرى هل أعرضَ الرحمن عنكم..فأكثركم جُفاةٌ معرضونَ؟!
فقلتُ كفاك وامضِ لقد تأذى بك الفقراءُ والمستضعفونَ
فقال: وهل رَحِمتُم أهل ضعفٍ.. متى كنتم عليهم تشفقونَ؟
هي الأزمات تُظهرُ كل شأنٍ وفيها يُرحمُ المتراحمونَ.
[email protected]