يعيش العالم أجمع فترة حرجة غامضة مابين انتشار فيروس الكورونا وما يصاحبه من صخب الشائعات والسخرية منه والتي تعج بها فضاء السوشيال ميديا، وبين إجراءات احترازية وسرعة اتخاذ اللازم .. هذه الفترة أضفت غموضا علي ما نمر به، ولكن الحقيقة الأكيدة أن بمصر عدد لا بأس به من الأطباء المتخصصين الذين يفتحون عياداتهم ويتلقون أي مكالمات هاتفية لإسعاف وعلاج العديد من الناس -المتوترة القلقة- دون ملل أو انزعاج.
وتظل ثقتي في الطبيب المصري يقينا نابعا من فطرته الفطنة واعتماده علي التجربة العملية في التنفيذ وليس النظريات، فهو وريث جينات ممتدة من آلاف السنين نستدل عليها بأدلة وبراهين علمية وليس كلمات مجردة. فتاريخ مصر زاخر ببرديات ثلاث أساسية كشفت لنا عن سر عظمة مصر الذي لايكمن في علوم الهندسة والعمارة وبناء الأهرامات والمقابر الملكية فحسب، بل في عظمة الإنسان المصري بعقله وفكره الأصيل، فهو سر الحضارة والإبداع.
فمنذ ٥٠٠٠ سنة ق.م، عرفت مصر التخصص بمفهومه العلمي الدقيق فلم تعرف فقط كلمة الطبيب، بل تخصصت في طبيب عيون، وطبيب الصحة العامة والأوبئة، وطبيب بيطري، والجراح بمختلف تخصصاته الدقيقة، وطبيب الأورام، وطبيب الصدرية ، وطبيب النساء والولادة، وطبيب الأسنان. واستدلينا علي ذلك من بردية "كاهون" التي عثر عليها في أوائل القرن الماضي بالفيوم في اللاهون، وتصف ١٧ مرضا وتشخيصا في أمراض النساء، وكيف كان الطبيب المصري الأول والأسبق في تحديد نوع الجنين بتحليل بول السيدة الحامل في الشهر الرابع. أما بردية "إبرز"، فتعد مرجعا لمعرفة الطب الباطني والجلدية والعيون والجروح والحروق والقلب وكيف نجح المصري في وصف الذبحة الصدرية ومعالجتها، وانسداد الشريان التاجي ووصف للأورام المختلفة وتصنيفها.
وتعد بردية "ادوين سميث"لمترجمها (برستيد) مرجعا عن العظام والكسور وجراحتهما، وتعددت المناظر في المعابد والنقوش في المقابر التي ترسم وتصف الأطباء ودورهم في العلاج والعثور علي العديد من مقابر الأطباء منهم الملكيون والعسكريون.
وما أدل على ذلك من أقدم مجموعة أدوات جراحة طبية برونزية ترجع للدولة القديمة محفوظة في متحف "ايمحوت" بسقارة الذي اعتبره الأثريون فيما بعد "إله الطب". وفي الجيزة تم العثور علي هيكل عظمي لأحد رؤساء العمال لبناة الأهرام جنوب شرق أبوالهول، وبدراسة الجمجمة تبين خضوعه لعملية جراحية للتربنة والتئام الجرح وأنه تعافى وعاش لفترة طويلة بعدها.
لم يكن الأمر مقصورا على الرجال في هذا الأمر، بل ظهرت الطبيبة المتخصصة في علاج الأطفال والنساء وخاصة الحوامل، فهناك لقب "ين عات" بمعنى الطبيبة القابلة باللغة العامية "الداية"وتم الكشف في مقبرة زوجها "نفر سيس" على نقش يحمل اللقب .
وإذا تجولنا في أروقة المتحف المصري في التحرير، نجد في القاعة الأولى بعد المدخل لوحات خشبية بديعة النقش عن أول طبيب عرف في الأسرة ٣ وأوائل الأسرة ٤.
الحديث عن أطباء مصر وخبرتهم المتراكمة لن ينتهي، فلم يقتصر صيتهم على حدود مصر، فنجد أن الفرس حينما دخلوا مصر استعانوا لأنفسهم بالأطباء المصريين مثل الملك قورش، كذلك الملك "دارا" الذي طلب من طبيبه المصري "أدجا حور سنت" إعادة بناء بيت الحياة "مدرسة العلم والطب "في سايس بعد أن هدمها "قمبيز". وكان يتم تدريس الطب في مصر بالمدارس وتنقل المعلومات في سرية للتلاميذ كحال العالم القديم، وكانت هناك مدرسة "ايونو" بهليوبوليس. ولم يخطئ هوميروس حينما كتب في ملحمة الأوديسة "أن مصر بها أفضل الأطباء في العالم"، وذكر أفلاطون أنها "أرض الحكمة والحكماء" الذين يحققون الاستقرار والاستمرارية، وأشار هيرودوت في الفقرة 77 في كتابه الثاني "أن المصريين أكثر الشعوب التي عرفها علما ومعرفة.. فلولا مصر ما وصل العالم في الطب إلى ما هو عليه.
فتحية وتقديرا لكل طبيب أمين لبى القسم والنداء وراعى المولى عز وجل في العلاج.. ونداء للدولة بدعم الأطباء وفرق التمريض والمساعدين والبحث العلمي، وإعادة ترتيب الأولويات لتحقق لهم ولأسرهم الحياة الكريمة والأمان النفسي والمعنوي والمادي.