هناك نظرية في العلوم الإنسانية تسمى نظرية النفايات أو القمامة وباختصار تقوم على عدة عناصر تشمل بداية أن ندرس الشيء وعكسه فلكي نفهم الغنى يجب دراسة الفقر؛ لأن كلا الطرفين وجهان لعملة واحدة، ثم إن وجود القيمة واستمرارها فترة ما قد يؤدي لفقدان هذه القيمة أو جزء منها بمرور الزمن.
وهكذا تتغير القيمة من وقت لآخر، ولكن العقل الإنساني اليقظ قادر على اكتشاف القيمة والاستفادة منها؛ لأن لكل شيء وجهين؛ بمعنى أن أي مشكلة قد يكون لها جانب إيجابي، وأي محنة قد نستفيد منها بدرجة أو بأخرى، ولن يحدث ذلك إلا من خلال البحث والتفكير العلمي.
الخلاصة.. أن أي مشكلة أو حتى كارثة أصبحت واقعًا لن يجدي البكاء شيئًا، ولكن لهذه المشكلة أو الكارثة وجهًا آخر، أو إيجابيات يمكن الاستفادة منها، وعلينا البحث عن كيفية الاستفادة بدلا من البكاء على اللبن المسكوب، وأنه حتى القمامة لها فائدة يمكن الاستفادة منها، وهناك أمثلة كثيرة في الحياة توضح صدق هذه النظرية، ومثال لذلك حياة الدكتور طه حسين، والشيخ محمد رفعت، كلاهما أصيب بفقدان البصر في الطفولة فكانت بمثابة التحدي لهما، واستكمل كل منهما الدراسة والتفوق، فوصل الشيخ رفعت لأعلى المراتب في قراءة القرآن الكريم، ووصل د. طه حسين لأعلى المراتب العلمية؛ بمعنى حتى المرض مجرد الصبر له حسنات وتكفير للسيئات.. وهكذا.
وهذه مقدمة لتوضيح علاقة انتشار فيروس كورونا بالنظرية والمقصود، وقعت الكارثة وجاءت كورونا، فعلينا الآن كيفية مواجهتها والتفكير في الوجه الآخر وكيفية الاستفادة منها بالتفكير والبحث العلمي، وأعتقد أن هناك عدة دروس؛ سواء على مستوى العالم بوجه عام أو على مستوى مصر.
وبداية فإن البشرية جمعاء عرفت حجمها وازدادت قربًا من المولى الكريم، وأن الحياة بيد المولى الكريم قد نفقدها في أي لحظة، وأغلقت تقريبًا جميع أماكن اللهو والفساد، ثم عرف الجميع قيمة العلم والعلماء وأهمية البحث العلمي، وتراجعت أهمية الإنفاق على السلاح والفنون والرياضيين، وانخفضت الملوثات الناتجة على مستوى العالم بنحو يقترب من50%؛ مما أتاح للغلاف الجوي والكرة الأرضية الفرصة لالتقاط الأنفاس، وهذا في حد ذاته ميزة لعلها تكون عبرة للجميع؛ للالتفاف والتوحد نحو مستقبلنا المشترك، وحماية كوكبنا من الدمار الذي نصنعه بأيدينا.
والأزمة الأخيرة أثبتت أيضًا للجميع أهمية الدولة المركزية والمسيطرة على الخدمات الأساسية؛ ولذلك نجحت الصين بامتياز في مواجهة الأزمة والخروج منها من خلال الانضباط الكامل والجدية وسيطرة الدولة على قطاعات الخدمات الصحية والبحث العلمي وقيادة عملية التنمية بوجه عام، مقابل فشل كبير لدول كبرى مثل إيطاليا وأمريكا؛ لضعف سيطرة الدولة على زمام الأمور؛ لأنه عند الكوارث والأزمات رأس المال يبحث عن الربح، وتظهر أهمية الدولة القوية لمواجهة هذه الكوارث، ولقد طالب عمدة نيويورك بتأميم قطاعات المستلزمات الطبية والخدمات الصحية بأمريكا.
ولذلك أعتقد أن هناك تغيرات كبرى للعالم بعد كورونا؛ سواء بالنسبة للنظام السياسي أو بالنسبة للإنفاق على العلم والتعليم أو على التسليح أو على البيئة.
وبالنسبة لمصر أصبح الأمر يتطلب إعادة النظر سريعًا في مخصصات الصحة والتعليم والبحث العلمي، وخاصة مع وجود عدو خطير يتربص بنا، ويعطي هذه القطاعات اهتماماته القصوى، وللأسف متفوق جدًا في هذه المجالات، وبالطبع يمتد الأمر إلى إعادة نظر شاملة وسريعة أيضًا في أجور هذه القطاعات؛ التي يجب أن تكون في مقدمة الأجور - كما يحدث في العالم - ومعهم العاملون في قطاعات النظافة، وأيضًا شهداء الوطن وفي مقدمتهم شهداء الجيش والشرطة والأطباء، وحتى عمال النظافة يجب أن يحصل أبناؤهم وأسرهم على معاش لا يقل عن الأجر الأساسي، ويكون هناك قانون موحد لشهداء الوطن والعمل في كل مكان، ولا ننسى عمال النظافة ودورهم وتضحياتهم من أجلنا، ثم آن الأوان لاختفاء الصحف الورقية والتركيز على الصحف الإلكترونية؛ لأن الورقية قد تنقل العدوى وأيضًا العملات الورقية يجب إلغاؤها والعمل على محو الأمية خلال برنامج وطني لمدة ثلاث سنوات، وبعد ذلك إلغاء التعامل بالنقود فهي مصدر للعدوى، كما أن إلغاءها يتيح رصد كل المعاملات المالية، ومن ثم إحكام الضريبة على أي دخل والتحول للدعم النقدي، كما أن الأزمة الأخيرة أوضحت خطورة التكدس السكاني والازدحام في نقل العدوى، ومن ثم أهمية أن يكون التعمير بعيدًا عن الوادي بمسافات كبيرة حتى لا تلتحم المدن ببعضها، ويزداد الازدحام وخطورة نقل العدوى.
وأعتقد أن كثيرًا من العادات الاجتماعية الخاطئة سوف تختفي؛ مثل السلام باليد والعناق، كما سيتراجع الإقبال على الأطعمة الجاهزة، وسوف يكون هناك التزام أكبر بالنظافة والطعام الصحي.
وتبقى مشكلة الفجوة العلمية والتكنولوجية بيننا وبين الدول المتقدمة ومنها العدو، وهنا ضرورة التعاون العربي المشترك ودور مصر في القيادة للحاق بركب الحضارة والحروب القادمة حروب تكنولوجية، وقد تكون بيولوجية وكيمائية، ومن ثم ضرورة التحرك السريع والتغير الهيكلي لمنظومة التعليم والبحث العلمي في مصر؛ لأننا في صراع مع الزمن، والمستقبل القريب ليس به مكان لمن يهمل العلم والعلماء الذين هم قادرون على تحويل النقمة إلى نعمة.
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد..