لطالما تتعرض مصر على مدى تاريخها إلى حملات عديدة من الجهات الشرقية والغربية والجنوبية، وفي الآونة الأخيرة لبس الإرهاب واستتر في أثواب عديدة وتلون بألوان متنوعة غدا التمييز فيها بين العدو والحليف أمرًا صعبًا، وغدت الحروب بأسلحة جديدة.. أسلحة الجيلين الرابع والخامس.
وبرغم هذا التنوع والتشكيل والتطور المذهل الذي نشهده في عداء وحروب ونزاعات تظل النفس البشرية بمشاعرها الصادقة البريئة والتي تتمثل في الأمومة - كما هي على مر العصور ومختلف الأجناس - مشاعر تتمايل بين الحب والعطاء.. الضعف والقوة.. الحزم واللين.. تعتصر ألمًا وتفيض دمعًا لفقد أحد الأبناء الذين يستشهدون وهم يحمون ظهورنا من غدر الإرهاب.
وتظل قصة الشهيد واحدة مهما تنوعت أشكال الأسباب، قصة تسردها الأجيال ونقف ثباتًا وانحناء لها؛ هي قصة "أم الشهيد" ومن أقدمها قصة "تتي شيري" والدة "سقنن رع الثاني" وجدة "كاموسا" و"أحمس".. الأم التي ساندت ابنها في نضاله الطويل ضد قبائل رعوية قادمة من فلسطين "حكا حاسوت" والتي أطلق عليها "مانتون" المؤرخ المشهور اسم الهكسوس؛ وقد حكموا مصر ١٥٠ عامًا واستقروا في الدلتا وشكلوا الأسرتين الـ١٥ والـ١٦ المعروفة بعصر الاضمحلال الثاني، واستقروا في الدلتا.. خربوا فيها البلاد وعادوا المصريين وعاملوهم أسوأ معاملة.
وكان أمراء طيبة يستميتون في الدفاع عن البلاد دون نتائج محسوسة للشعب، حتى جاء "سقنن رع الثاني" وتولى حكم طيبة وقيادة الجيش وعزم على تحرير البلاد باستخدام كل الطرق؛ سواء بحروب سياسية أو سلاح، وتتعدد المحاولات حتى يموت هذا القائد متأثرًا بجراحه، والتي تشهد عليها مومياه المحفوظة في المتحف المصري، ويظهر بها الأسلحة الجديدة التي استخدمها الهكسوس في ذلك الوقت، وهي السهام والقوس والرماح.
وطوال تلك الفترة كانت الأم "تتي شيري" تسانده بقوة وتشجعه على الاستمرار في كفاحه لتخليص المصريين من هذا الوباء.. لم تنحن ولم تمل أو تكل، تفي بدعمها لابنها طوال فترة نضاله الطويلة وبعد وفاته لم تهن للحظة، وأخذت تساند أحفادها الذين احتضنتهم وساهمت في تنشئتهم بشكل كبير مع أمهم "إياح حتب" ليستكملوا رحلة الكفاح، وتولى "كاموسا" حكم طيبة.
ودفعت "تتي شيري" رجال الدولة لدعم حفيدها في حربه ضد الهكسوس بالرغم من عدم رغبتهم في الحرب، وكان رأيهم أن يظلوا يحكمون طيبة وما جاورها وليتركوا الدلتا لأهلها يدافعون عنها.. إلا أن هذه الأم المكلومة والمرأة العتية دفعت حفيدها ليثأر لأبيه ويحقق الحلم، وبالفعل خاض "كاموسا" رحلة الكفاح في حرب التحرير وحقق انتصارات عديدة، وشاءت الأقدار أن يستشهد لتصبح الجدة مكلومة لفقد ابنها وحفيدها، وتغدو "إياح حتب" أم الشهيد الثانية بدورها وتتكاتف السيدتان ولم يخشيا أن يقفدا "أحمس"؛ بل دعما أحمس ليتولى الجيش، ووقفا بشموخ وقوة خلفه ليستكمل مشوار والده وشقيقه، وبالفعل سجلت مصر على أيدي أحمس وجدته أولا وأمه ثانيًا، الفصل الختامي في حرب التحرير، وحررت مصر ليبدأ بهم عصر جديد.. الدولة الحديثة.
ونحن على مشارف عيد الأم، تحية وإجلال وتقدير لأم الشهيد التي قدمت لبلدها أبناء يدافعون دومًا عن مصر الأبية.. فالمرأة المصرية على مر التاريخ اتسمت بالصلابة بالرغم من حنانها، امرأة مكافحة منذ القدم، فكان حقًا أن المصريين خير أجناد الأرض.