ما بعد الحداثة ترفض عصر الحداثة ومشتملاته؛ خاصة النظم الاقتصادية التي أدت للمخاطر البيئية المختلفة التي نعانيها الآن، مثل: تغيرات المناخ، الدفء الحراري، ثقب الأوزون، وذوبان الجليد وخلافه، وترى أن النظم الاقتصادية السائدة هي السبب، ويجب تغييرها بسرعة لمواجهة هذه المشكلات، ومن هنا العلاقة بين البيئة والاقتصاد وعصر ما بعد الحداثة وهي التحدي الحقيقي؛ حيث يرى علماء البيئة أن استمرار نفس النهج الاقتصادي، خاصة النظام الرأسمالي الذي يبحث عن الربح المادي بغض النظر عن أي عواقب أو كوارث مستقبلية سوف يؤدي إلى فناء البشرية.
فهدف الرأسمالية المعلن هو تحقيق أقصى ربح مادي، ويعني بوضوح المكسب المادي قبل أي شيء، وهذه قمة عدم الإنسانية والوحشية؛ لأنها تضع المادة قبل الإنسان، ونتيجة لذلك انقسم العالم إلى 1% يملك ثروة ونفوذًا أكثر من الـ99% الباقية، ولا يمكن استمرار هذه الأوضاع بنفس الوتيرة، وإلا سوف يعجل الإنسان بيوم القيامة.
وهذه مدرسة علمية تضم نخبة من علماء البيئة من مختلف أنحاء العالم، وليس رأيًا فرديًا أو مجموعة صغيرة، بل هي مدرسة علمية من عقود وتضم علماء كبارًا، ومن هنا التحدي الكبير، إما الفناء أو تغيير جذري في النظم الاقتصادية؛ حيث ظهرت بوادر وأنشطة اقتصادية تتلاءم مع البيئة، مثل: الاقتصاد الأخضر، والاقتصاد الأزرق، وكلاهما يتميز بالتوافق مع البيئة وفكر التنمية المستدامة.
فمثلا يتناول الاقتصاد الأزرق اقتصادات الأنهار والبحار والثروات البحرية المختلفة؛ بما فيها من غاز أو بترول أو استخراج الطاقة بالمياه، كما في السد العالي مع النقل النهري والبحري بوجه عام، والسياحة الزرقاء والصناعات المرتبطة من خلال إدارة مستدامة للموارد المائية بوجه عام.
وهناك الاقتصاد الأخضر الذي يركز على نشر الاستخدامات النظيفة في الصناعة والطاقات المتجددة والطبيعية، ونشر الخضرة والتشجير والبعض يضم الاقتصاد الأزرق للأخضر، وكلاهما يضع الاعتبارات البيئية في المقام الأول.
وينتشر سريعًا الآن الاقتصاد الرقمي؛ حيث وصلت الميزانيات المخصصة له عام 2020 إلى أكثر من 30 تريليون دولار، وهو يركز على الإلكترونيات بوجه عام في مختلف جوانب العمل والحياة، وبرغم ما سوف يترتب على ذلك من ارتفاع نسبة البطالة، لكن الاقتصاد الرقمي سيحد كثيرًا من التلوث، ويقوم بأعمال النظافة، والأعمال الخطرة، ويحد من الازدحام في الشوارع؛ لأن كثيرًا من الأعمال سوف تنجز إلكترونيًا وبعضها يمكن القيام بها من المنازل، فضلًا عن الاستغناء عن نسبة كبيرة من العمالة لن تقل عن نحو 30% من الأعمال خلال عشر سنوات.
ولكن يبقى الصراع القادم والحتمي بين البيئة والرأسمالية؛ حيث يرى كثيرون من علماء البيئة أن النظام الرأسمالي هو المسئول الأول عن معظم الكوارث البيئية، ومنهم كتاب العالمة الكندية الشهيرة "نعومي كلاين" عن الرأسمالية الكارثية والشرسة، وتحملها مسئولية تدمير البيئة وتغير المناخ، وأيضًا المفكر البريطاني جورج مونبي، وحيث يرى أن الرأسمالية تعتمد في نجاحها على استغلال ونهب ثروات العالم، وتضيف الكاتبة الهندية "أندروياتي" أن الرأسمالية في حد ذاتها كارثة تعيش وتتغذى على كثير من الصناعات المدمرة للمناخ، والبيئة والإنسان.
فمثلًا يشير تقرير "معهد استكهولم لبحوث السلام"؛ وهو مركز سويدي متخصص في مبيعات السلاح إلى نمو متزايد لتجارة السلاح في العالم، ويشير تقرير 2019 إلى أن مبيعات أمريكا وحدها بلغت 59% من مبيعات أكبر 100 شركة في هذا المجال، والمؤسف أن نصف هذه المبيعات كانت للشرق الأوسط، ويلي أمريكا روسيا ثم فرنسا ثم ألمانيا، أي أن معظم تجارة السلاح للدول الرأسمالية.
وبرغم ذلك، فإن الغريب هو تراجع معدلات النمو في جميع الدول الرأسمالية؛ حيث لم تتعد 2%، مقابل معدلات عالية للصين الشيوعية بمتوسط عام لا يقل عن 7% خلال العقود الماضية، وهذا النظام الشيوعي نجح في إنقاذ نحو850 مليون مواطن من الفقر المدقع بمتوسط دخل نحو 26 دولارًا شهرياً وفي أقل من أربعين عامًا ارتفع متوسط الدخل الشهري إلى نحو1400 دولار شهريًا، هذا في مقابل تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الدول الرأسمالية؛ لأن تزايد الفقر خطر على البيئة وترك الاقتصاد لحرية السوق، والبحث عن المكسب المادي فقط يكون على حساب البيئة، بل ويدمرها.
ومن هنا تأتي أهمية مصلحة الأغلبية والبشرية وليست مصلحة القلة المسيطرة التي لا تبالي سوى بالمكسب المادي، حتى لو كان الثمن خراب البيئة والبشر، ومن هنا أهمية سيطرة المجتمع والأغلبية ومصالحه العليا على الإنتاج والسياسات العامة المرتبطة بالبيئة، ومصلحة الأغلبية، ومن هنا فترك هذه المصالح العليا في يد قلة تحتكر الثروة والقرار كارثة قد تدمر الكون.
ويضيف الكاتب الأسترالي "لوينشتاين" أن الوجه القبيح للرأسمالية أصبح واضحًا للجميع بعد غزو العراق، ونهب ثرواتها على أمل إقامة نموذج للحرية والديمقراطية، وكانت النتيجة الواضحة للجميع هي رأسمالية الكوارث والدمار لمصلحة قلة من تجار السلاح والموت.
وما حدث من احتجاجات شعبية كبيرة في أمريكا، مثل: حركة "احتلوا وول ستريت" وحركة "السترات الصفراء" في فرنسا كلاهما يعكسان وعيًا شعبيًا متزايدًا من الداخل برفض النموذج الرأسمالي، وهناك كتابات ومؤشرات كثيرة على الأرض تؤكد انهيار قريب للرأسمالية، مثل: قرارات الرئيس الأمريكي ترامب بفرض قيود وضرائب كبيرة على كثير من المنتجات الصينية والأوروبية؛ مما يهدم صراحة مبدأ حرية السوق، وهو أساس النظام الرأسمالي.
كما تشير استطلاعات الرأي العام في الدول الرأسمالية إلى تراجع الرأسمالية، خاصة بين الشباب، فعلى سبيل المثال، يؤكد د. محمد كمال أن استطلاعات الرأي العام التي جرت في أمريكا العام الماضي أكدت أن 36% من الناخبين يفضلون الابتعاد عن النظام الرأسمالي، والمضي قدمًا نحو الاشتراكية، وارتفعت النسبة لدى الشباب في المرحلة العمرية من 18 إلى 29 عامًا؛ حيث فضل 51% الاشتراكية مقابل 45% الرأسمالية و4% لا يعلم، وتزايدت حصة أحزاب الخضر في البرلمان.
ومن هنا تأتي أهمية سرعة العمل على إنقاذ كوكبنا من الرأسمالية المتوحشة، وهنا جوهر الصراع بين مصالح قلة أو 1% من أغنياء الأرض، ومصالح الـ99% فهو صراع وجود قبل النقود