متفردًا كعادته، بجلال قيمته، وقامته، وشموخه التاريخي، الإسلامي، والحضاري، والفكري، والعلمي، محضنًا للسماحة والوسطية والاعتدال وصحيح الدين، قبلة لأولي الإسلام والعلم والفكر، مربيًا لكل من أراد سلوكًا قويمًا يحيا به في حياته، ليفوز ويسعد به في أخراه، حاويًا ذاكرة تاريخية تراثية حسنة الخصال والأفعال لعلمائه، وشيوخه، وطلابه، من كل جنسيات البسيطة، مقدمًا كل يوم - للعالم أجمع - جديد فكره وحضارته وتراثه المجدد، البعيد عن كل تعقيد أو لبس أو غموض.
عن أزهرنا الشريف المبارك أعني ما سبق، اتساقًا مع ختام مؤتمره العالمي "الأزهر وتجديد الفكر الإسلامي" الذي عقده مؤخرًا يومي الإثنين والثلاثاء 27-28 من يناير الجاري، برعاية الرئيس السيسي، وبمشاركة نخبة من كبار المفكرين والشخصيات السياسية والدينية العالمية، وممثلين من وزارات الأوقاف ودور الإفتاء والمجالس الإسلامية من ستة وأربعين دولة من دول العالم الإسلامي.
بختام مؤتمرنا لم يكن هناك اهتمام ملحوظ على وسائل "السوشيال ميديا" المختلفة، إلا الحديث عما دار بين فضيلة شيخ الأزهر والدكتور محمد الخشت رئيس جامعة القاهرة، الكل يدلو بدلوه، ناسيًا أهداف المؤتمر أصلًا، وما كنا نرجوه منه من توصيات واستنتاجات تساهم في ضبط مسيرة حياة فكرنا الإسلامي وأهله، واضعة وراسية العديد من نماذج التجديد لشتى قضاياه، آخذة بآراء هؤلاء العلماء الكرام، فطاحل فكرنا وشريعتنا الإسلامية ممن شرفونا من مختلف أنحاء العالم ليضعوا ورقة علاجية لهذه القضايا المصيرية لأمتنا الإسلامية ومواطنيها.
مع متابعتي لكل هذه الإرهاصات غير الأخلاقية في التعليق على مناقشة إمامنا الأكبر شيخ الأزهر مع العالم الجليل الدكتور الخشت رئيس جامعة القاهرة، لم أجد أفضل من تعليق صوت العقل والحكمة والرصانة والأدب، العارف لحدود الحوار وآدابه بين علمائنا، المتمثل في تعليق فضيلة الأستاذ الدكتور غانم السعيد عميد كلية إعلام الأزهر حين قال تحت عنوان:"رفقًا بالأمة.. لا تشعلوها فتنة"، داعيًا ألا يخرج الحوار الذي دار بين فضيلة الإمام والأستاذ الدكتور الخشت عن سياقه، وألا نحوِّله إلى معركة ينتصر فيها فريق للطيب، وفريق مع الخشت، مشيدًا بالرجلين، موضحًا ثناء وإشادة كل منهما للآخر، وعلاقة الود والحب بينهما كعلماء، والتي تتضمن في ثناياها بعض المناوشات العلمية، وهذا أمر مقدر بين العلماء، قائم على قاعدة "الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية"، مشيرًا إلى طلب الدكتور الخشت عرضه بنفسه على من يخالفه في الرأي، أن يبدي رأيه، وهذا شأن العلماء الثقاة الذين يؤمنون بالرأي والرأي الآخر.
داعيًا وراجيًا من أهل الفتن، عدم الصيد في الماء العكر، وإذكاء نار الخصومات بين مؤسسات الوطن، والانشغال بها عن القضايا الكبرى والخطيرة التي من أجلها عُقد المؤتمر، مطالبًا منهم أن يتعودوا على الاختلاف في الرأي؛ لأنه منهج إسلامي أصيل سار عليه السلف والخلف، وفي إطاره نحافظ على علاقات الود والرحمة التي يجب أن تسود بيننا، وألا نسلم لهؤلاء المتطرفين المتشددين ورقة يتلاعبون من خلالها بعقول الشباب، ليقولوا لهم: ها كم انظروا كيف أن علماءكم يختلفون فيما بينهم، ونحن الذين بفكرنا نعصمكم من هذه الخلافات، راجيًا أصحاب العقول الرشيدة ألا يضيعوا ثمار هذا المؤتمر العظيم، بالانشغال بخلاف عارض ووارد، محذرًا أن هذا ما يتمناه أعداء الأمة.
وصدق الدكتور الخشت رئيس جامعة القاهرة، واتفق معه تمام الاتفاق، حين قال سلفًا ضمن فعاليات الصالون الثقافي للجامعة في فبراير 2018: "إن هناك مشكلة في إدارة التنوع والحوار والاختلاف بشكل إيجابي، وفق القواعد والأصول التي تحكم الحوار، وأن مصر لن تدخل مصاف الدول المتقدمة إلا بمواطن مؤهل ومسئول، وقادر على إدارة الحوار".
وأزيد على ما ذكره فأقول لأهل الفتن: إننا نؤمن بأن الخلاف سنة الله في كونه وعباده، لكن نبينا "صلي الله عليه وسلم" نهانا عن الاختلاف قائلا: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يرون في الخلاف شرًا، كما يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "الخلاف شر".
ولله دره الكاتب سلطان الحجار حين عبّر في مقالته (ثقافة الاختلاف.. واختلاف الثقافة) بقوله: "المثقف لم يعد يختلف كثيرًا عن الجاهل أو الأمي؛ حيث نرى بعض المثقفين اليوم لا يحترمون الرأي الآخر، لا يجيدون لغة الحوار القائمة على البناء والحلول بقدر ما يسعون إلى الهدم والجدل، لذا نرى الأمور تسير بنا في كثير من الأحيان إلى طريق مسدود، فقط الثرثرة هي التي تقود سفينة الحوار، لتبحر بها وسط الأفكار المتلاطمة والمتضادة، لا أحد يفكر في الركون إلى العقل لإنقاذ هذه السفينة؛ بل هناك كثيرون يفكرون فقط في خرقها".
صفوة قولي..علينا أن نتعلم أيضًا من تجربة شاعر المهجر جبران خليل جبران حين أخبرنا: "تعلمت الصمت من الثرثار، والتساهل من المتعصب، واللطف من الغليظ، والأغرب من هذا إنني لا أعترف بجميل هؤلاء المعلمين".. حفظ الله مصرنا وعلماءنا.. ووقى سفينتنا من الخرق.. والله من وراء القصد.