كثيرًا ما نسمع مصطلح ومفهوم الليبرالية، وكثيرًا ما اختلط علينا هذا المفهوم بمفهوم العلمانية، لكن الناظر بعين العقل والتدقيق، يدرك أن الليبرالية هو مذهب رأسمالي، ينادي بالحرية المطلقة في السياسة والاقتصاد، وبقبول أفكار الغير وأفعاله، حتى لو كانت متعارضة مع أفكار المذهب وأفعاله، شرط المعاملة بالمثل، وبالإمعان في الليبرالية السياسية، نجد أنها تقوم على التعددية الأيديولوجية والتنظيمية الحزبية، بينما الليبرالية الفكرية تقوم على حرية الاعتقاد، أي حرية الإلحاد، وحرية السلوك، من دعارة وفجور، كما في حالة من يتجردن من ثيابهن، ويقمن بتصوير أنفسهن، وينشرن صورهن على مدوناتهن وصفحاتهن على وسائل التواصل الاجتماعي، تحت دعوى الحرية الشخصية، وكما من يطالب بزواج المسلمة من أهل الكتاب، ولا يجد غضاضة أو حرجًا في ذلك، تحت دعوى الحرية الشخصية، وكما في حالات الكثير من النشطاء والمدونين العلمانيين والليبراليين الذين يدعون ويرحبون بزواج المثليين وحق الشواذ في شواذهم، ولا يستحون من نشر آرائهم ومعتقداتهم هذه بصفحاتهم التواصلية على النت.
تعرف الليبرالية في أحد المؤلفات بأنها "مصطلح أجنبي معرب مأخوذ من (Liberalism) في الإنجليزية، وتعني التحررية، ويعود اشتقاقها إلى (Liberty) ، ومعناها الحرية، وهي مذهب فكري يركز على الحرية الفردية، ويرى وجوب احترام استقلال الأفراد، ويعتقد أن الوظيفة الأساسية للدولة هي حماية حريات المواطنين مثل حرية التفكير، والتعبير والملكية الخاصة، والحرية الشخصية وغيرها، ولهذا يسعى هذا المذهب إلى وضع القيود على السلطة، وتقليل دورها، وإبعاد الحكومة عن السوق، وتوسيع الحريات المدنية.
وتذكر الموسوعة الأمريكية الأكاديمية أن الليبرالية تقوم على أساس علماني يعظم الإنسان، ويرى أنه مستقل بذاته في إدراك احتياجاته؛ حيث إن النظام الليبرالي الجديد الذي ارتسم في فكر عصر التنوير بدأ يضع الإنسان بدلا من الإله في وسط الأشياء، فالناس بعقولهم المفكرة يمكنهم أن يفهموا كل شيء، ويمكنهم أن يطوروا أنفسهم ومجتمعاتهم عبر فعل نظامي وعقلاني.
بينما يرى آخرون أن مذهب الحرية (Liberalism) أيضا مذهب سياسي فلسفي، يقرر أن وحدة الدين ليست ضرورية للتنظيم الاجتماعي الصالح، وأن القانون يجب أن يكفل حرية الرأي والاعتقاد.
ومع كل التعريفات السابقة المتعددة إلا أنها تظل غامضة ومبهمة، وفقًا لما قرره "دونالد سترومبرج" في "تاريخ الفكر الأوروبي الحديث" بقوله: "والحق أن كلمة الليبرالية، مصطلح عريض وغامض، شأنه في ذلك مصطلح الرومانسية ولا يزال حتى يومنا هذا على حالة من الغموض والإبهام ".
وتتعجب "الموسوعة السياسية" - ونحن معها نشاركها هذا التعجب أيضًا - من أنه على الرغم من مناداة الغرب بالليبرالية والديمقراطية، إلا أنهم يتصرفون ضد حرية الأفراد والشعوب في علاقاتهم الدولية والفكرية، وما موقفهم من الكيان الصهيوني في فلسطين، ومواقفهم من حقوق المسلمين المضطهدين في العالم إلا بعض الأدلة على كذب دعواهم.
ومن المعروف أن الليبرالية قد ظهرت أول ما ظهرت في أوروبا، في أجواء قاسية عاش فيها الشعب الأوروبي تحت سلطة النظام الإقطاعي، الذي أفسد البلاد والعباد والماء والهواء، ناهيك عن الفساد الديني الذي استغلته السلطات الدينية والسادة والملوك في ظلمهم لمن تحتهم من المحكومين، وفي هذه الأجواء المشحونة بالكره والعداء لكل من السلطة الدينية متمثلة في الكنيسة والسلطة السياسية متمثلة في الملوك والسادة، والسلطة الاقتصادية، نشأ الفكر الليبرالي متخلصا من قيود السلطات الثلاث الدينية والسياسية والاقتصادية.
ومما يحزن الأفئدة، ويسكب عبرات الأعين، أنه في ظل معرفتنا لعوامل نشأتها السالفة الذكر بالغرب الأوروبي، نجد بعضا من بني جلدتنا من يعتنقها مذهبًا فكريًا في بلادنا الإسلامية، إذ إنه بعدما تخلت أوروبا عن دينها كدين لاهوتي، واعتنقت الفكر الليبرالي المادي العلماني، بدأت في عملية انتشارها بدولنا الإسلامية، بدءًا من البدايات الأولى الاستعمارية التي جاءوا بها متدثرين بحركة الكشوف الجغرافية التي لبست ثوب العلم والاكتشاف، كما كان من أهم ملامح القرنين الخامس والسادس عشر الميلادي، حيث تم تغيير خريطة العالم، إيذانًا بظهور حركة النهضة الأوروبية التي عبرت من خلالها أوروبا عصورها المظلمة، عبر الدول الاستعمارية – آنذاك - البرتغال وإسبانيا وفرنسا وإنجلترا.
كما كان للدوافع الدينية أيضًا دور في حركة الكشوف الجغرافية، فالبرتغال مثلا جعلت شعارها في هذه المرحلة ضرب قوة المسلمين في غرب إفريقيا وشواطئ الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، كما مارس الأوروبيون تجارة الرقيق التي استمرت ثلاثة قرون نقل خلالها إلى الأماكن المكتشفة اثني عشر مليونًا من الأرقاء، جنبًا إلى بذل المستعمرين الأوروبيين جهودهم التبشيرية بين السكان الأصليين في البلاد التي استعمروها، فكان تشجيع الأسبان والبرتغاليين على حركة التنصير للمذهب الكاثوليكي بين أهالي الأمريكتين والبلاد التي وصلوا إليها .
رافق ذلك الحملة العسكرية التي هدفت إلى تصفية الوجود الإسلامي في الأندلس، ومن ثمة كان الاستعمار البوابة الرئيسة المباشرة لدخول الليبرالية بلادنا الإسلامية، حيث اقترنت بجملة من آلياتها ترسخت بمجتمعاتنا الإسلامية، أضعفت الروح الدينية فيه، مكونة جيلًا يحمل الفكر الليبرالي من أبناء المسلمين.
[email protected]