في نحو 30 موضعًا ذُكِر اسمها في القرآن، وهو مالم يحدث مع امرأة غيرها، فها هي قصتها تبدأ في سورة آل عمران وتكتمل في سورة مريم، إنها مريم العذراء، الطاهرة النقية، العابدة التقية، الأم التي اصطفاها الله والتي انجبت نبيه عيسى عليه السلام.
وقد روى الطبراني بإسناد صحيح على شرط مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: سيدات نساء أهل الجنة بعد مريم ابنة عمران، فاطمة، وخديجة، وآسية امرأة فرعون.
أول الحكاية ومولد مريم
يرجع نسب مريم إلى أسرة ذات أصل طاهر نقي وهم آل عمران الذين اصطفاهم الله تعالى فقال فيهم في كتابه:
"إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" - سورة آل عمران الآيتان: 33- 34
فكان بيتهم بيت تقوى وصلاح، وكان عمران رجلا تقيا صالحا عابدا عالما، يعلم الناس مبادئ الدين والعبادة والصلاح إذ كان من أحبار اليهود وصالحيهم، وكذلك فقد كُرِّمت سلالتهم بالنبوة، فنبي الله عيسى هو من ذرية آل عمران، ونبي الله يحيى ابن خالته أيضا من هذه السلالة الطاهرة النقية ذرية بعضها من بعض.
أم مريم
أما أم مريم - حنة بنت فاقوذا زوجة عمران – فشاء المولى أن تكون امرأة عاقراً، فهاهي قد أصبحت عجوزا بلا ذرية، وفي يوم وبينما هي في ظلّ شجرة أبصرت طائرا يطعم فرخاً له، فحزنت على حالها ودعت الله تعالى كثيرا أن يهبها ولدا، وبرغم كبر سنها فقد استجاب الله لدعائها وحملت، وشكرت الله على فضله فنذرت أن يكون وليدها محررا - أي خالصا - متفرغا للعبادة ولخدمة بيت المقدس.
"رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً، فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم" - آل عمران الآية 35
ووضعت حنة حملها في مدينة الناصرة بفلسطين، ولكن المولود لم يكن ذكرًا كما دعت؛ ولكنها رزقت بمولودة أنثى سمتها مريم، ولأن الذكر وقتها كان هو المؤهل لخدمة بيت المقدس، ولم تكن البنات تقمن بهذه المهمة، فقد اعتذرت حنة لله تعالى على نذرها.
"فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ."- آل عمران الآية 36
ولكن الله تقبل النذرمنها برغم أن المولود أنثى، وجعلها نذرًا مباركاً وتقبلها ربها بقبول حسن.
فبمجرّد ولادتها حملتها أمها وهي في لفائفها الى الهيكل كما نذرت، وكانت هي وخالتها تتناوبان على خدمتها بين حين وآخر وكل واحدة منهنّ ترعاها بطريقتها، أما زكريا عليه السلام زوج خالتها فلم يكن ليبرحها من صباح أو مساء، خاصة وهو يراها تعويض عن النقص الذي يعتريه من حرمان الولد.
قصة قلم زكريا
قبل ولادة مريم توفي والدها عمران، ولمكانته العظيمة بين قومه فقد تنافس أهل القبيلة وتسابقوا حول كفالتها وتربيتها اعترافا منهم بأفضال عمران عليهم، فاتفقوا أن يقفوا على مجرى النهر ويرموا أقلامهم (اختاروا القلم لأن عمران كان يعلمهم بالقلم)، وآخر قلم يبقى في النهر دون أن ينجرف هو الذي يكفلها.
فرموا أقلامهم وجُرفت أقلامهم ووقف قلم زكريا أي أنه لم يكن آخر واحد، ولكن وقف تماماً في النهر، فرموا مرة ثانية، وحدث نفس ما حدث في المرة الأولى أي أن قلم زكريا وقف في النهر، ثم رموا المرة الثالثة فوقف القلم في النهر مرة أخرى.
"ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ" - سورة آل عمران- 44
مريم تمتثل لأمر الله
نشأت مريم في بيت الله كما نذرت لها أمها، فكانت فتاة صائمة قائمة عابدة، خادمة لبيت الله، لايهمها شيء من دنياها إلا رضا الله تبارك وتعالى، وقد تولاها الله واصطفاها فكان يأتيها طعامها من الغيب، وكان زكريا يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف.
" كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب "- آل عمران الآية37
وبينما كانت مريم تتعبد في المسجد يوما، جاءها جبريل على هيأة رجل ليبشرها بسيدنا عيسى ولدا لها ففزعت منه واستعاذت بالله، فخفف جبريل من روعها وشرح لها أنه رسول من الله تعالى ليهب لها غلاما سيكون له شأن عظيم في الأولين والآخرين، وأنه عبد مأمور من الله، فما كان من مريم العابدة الطائعة إلا الاستسلام لأمر الله، وأدى جبريل المهمة الموكلة إليه، ثم غاب عن ناظري مريم.
"فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا. قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا. قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا. قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا " سورة مريم الآيات :من 17 إلى 21
وحملت مريم بنبي الله، وهي تحمل همًا كالجبال، ماذا تقول لأهلها وقبيلتها، فما كان منها إلا أن خرجت من مكان تعبدها في بيت المقدس الى مدينة الناصرة مسقط رأسها، وهناك اعتزلت الناس وهي تدّعي المرض حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، حتى جاء وقت الوضع فخرجت من عزلتها ووحدتها وقد أسلمت نفسها لله تعالى فقادتها قدماها الى مكان مقفر بجوار نخلة يابسة، حينها تمنت الموت لأنها تعرف ما ستلقاه من قومها، لكن الله لم يتركها، فأجرى تحتها نهرًا لتروي ظمأها، وما كان منها إلا أن تمس جذع النخلة لتسقط عليها الثمار لتأكلها، ثم تلد مريم وتأتي قومها ونبي الله عيسى بين يديها، دون أن تتكلم.
" فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا. فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا. فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا" سورة مريم الايات من 22 إلى 24.
معجزة عيسى الصغير
ولما حملت مريم وليدها إلى قومها أنكروا عليها هذا وقالوا "يا أختَ هارونَ ما كانَ أبوكِ امرأ سوءٍ وما كانت أمُّكِ بغيَّاً" فلما سمعت إنكارهم وقولهم "فأشارتْ إليهِ" ليكلموه ويسألوه "قالوا كيفَ نكلِّمُ من كان في المهد صبياً" فقال له زكريا عليه السلام: أنطق بحجتك إن كنت أمرت بها.
وقيل لماسمع عيسى عليه السلام كلامهم وإنكارهم اتكأ على يساره، وترك الرضاع وأقبل عليهم يشير بيمينه "قال إنِّي عبدُ اللهِ آتانيَ الكتابَ وجعلني نبيّاً، وجعلني مباركاً أينَ ما كنتُ وأوصاني بالصلواتِ والزَّكوة ما دمتُ حياً، وبراً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقياً، والسَّلام عليَّ يومَ ولدتُ ويوم أموتُ ويومَ أبعثُ حيَّا" سورة مريم الآيات من 30 الى 33.
ثم سكت عيسى بعد ذلك فلم يتكلم حتى بلغ المدة التي يتكلم فيها الصبيان.
عيسى نبيا
عاش النبي عيسى عليه السلام يدعو للحكمة، والعدالة، والمساواة، والخير، والتسامح، والمحبة طوال عمره، ويقول ان الفضيلة هي أن يترفّع الإنسان عن الأذى بل ويتقبّل الأذى ويحوّله إلى تسامح ومحبة، وكان يقول أيضا أنّ الأشرار يستحقّون الشفقة لا القتال لأنّهم ضعاف من الداخل هشّين عبيد لغرائزهم ويجب أن يتمّ وعظهم كي يتخلّوا عن الشر، فكان رقيق القلب زاهداً محباً متسامحاً مع الخطاة حتى أقصى درجة وهذا أدّى لأنّ يتمّ نبذه من قبل الأشرار بحيث إنّهم لم يتخيّلوا حتى ما كان يدعوا إليه من فضائل، فكان عليه السلام يتنقل ويدعو الناس ومعه اثنا عشر تلميذاً آمنوا به وقرروا أن يتعلموا على يده حكم الدين.
وبعد ذلك، خاف أعداء الله من اليهود على عرشهم وثرواتهم، فبعث ملكهم جنوده ليقتلوا هذا الوليد المبارك، فهاجرت به مريم إلى مصر وتَرَّبى فيها المسيح عيسى، ثم عادت إلى فلسطين بعد موت الملك الطاغية، وظلت فيها حتى بعث الله تعالى المسيح برسالته، فشاركته أمه أعباءها، وأعباء اضطهاد اليهود له وكيدهم به، حتى إذا أرادوا قتله، أنقذه الله من بين أيديهم، وألقى شَبَهَهُ على أحد تلاميذه الخائنين وهو يهوذا الإسخريوطي، فأخذه اليهود فصلبوه حيا بينما رفع الله عيسى إليه، وتوفيت مريم بعد رفع عيسى بخمس سنوات، وكان عمرها حينئذ ثلاثًا وخمسين سنة، ويقال إن قبرها في أرض دمشق.
" وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا. بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا " – سورة النساء الآيات 157-158.
معجزات عيسى
تعدّدت المعجزات التي أيّد الله -تعالى- بها نبيّه عيسى عليه السلام، وقد ذكرت في القرآن الكريم في مواضع عدّة، منها قول الله تعالى: (وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)
فمن معجزاته التشكيل من الطين كهيئة الطير والنفخ فيه ليتحوّل إلى طائر يطير بإذن الله.
ومنها شفاء الأكمه والأبرص بإذن الله وإحياء الموتى بإذن الله، وأيضًا إخبار الناس بما يخفون في بيوتهم بإذن الله.
وكان من مُعجزاته أيضاً أنّه أُنزل عليه وعلى من آمن معه مائدةً من السماء، فبعد أن أُمر الحواريون بصيام ثلاثين يوماً تقرّباً لله تعالى، وبعد أن التزموا بهذا الأمر سألوا عيسى أن ينزل الله عليهم مائدة فطرهم من السماء لتكون عيداً لهم وفرحةً تبهج قلوبهم بعد أداء هذه العبادة، وتكون لاطمئنان قلوبهم وزيادة اليقين عندهم، فخاف عيسى ألّا يؤودّوا شكرها، فألحّوا عليه الطلب، فتوجّه عيسى إلى مصلّاه داعياً سائلاً الله أن ينزّل لهم المائدة، قال الله تعالى: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ).[١١] فاستجاب الله دعوة نبيه عيسى وأنزل على الحواريين مائدةً من السّماء كما سألوه.
وهكذا جاءت قصة السيدة مريم العذراء وطفلها نبي الله عيسى أكبر دليل على قدرة الله وعظمته... فسلام الله على نبيه عيسى وعلى أمه مريم الطاهرة التقية.