كلما مر على المجتمع حادث فردي، من جريمة قتل، أو مشاهد للعنف تنتشر على "سوشيال ميديا" علت صيحات بأن هذه الأحداث سببها ما يقدم على شاشات السينما من أفلام، وبالطبع أصبح هناك دورللرقابة على المصنفات الفنية التي لا أعفيها هنا من المسئولية، وأفلام محمد رمضان ..لكن لا يمكن لمجتمع أن يكون المؤثر الوحيد فيه هو السينما، فعلى حد قول المخرج الراحل حسام الدين مصطفى رحمه الله "لا يمكن لفيلم أن يغير مجتمعا" لأن المجتمعات ليست هشة لهذه الدرجة،وإلا لقام المجتمع الأمريكي بعد كل فيلم أكشن يمزق بعضه بعضا ..
المسئوليات مشتركة، وفى مقدمتها الأسرة والتربية والتعليم، وضعف تأثير القوة الناعمة ومنها أيضا الفنون التي تراجعت بشكل ملحوظ ..
ويحضرني في الكلام عن الرقابة ما كتبه أحد أهم من تولوا مسئولية الرقابة في العشرينيات وهو الرقيب العام توفيق بك صليب ..ففي مقال قديم جدا له كتب عن الرقابة تحت عنوان "الرقابة والسينما" يقول: "أما الرقابة في هذه السنوات "يقصد العشرينيات" فقد كانت حريصة على أن تساير هذا التقدم وأن تبذل قصارى جهدها في تشجيع المجاهدين في هذا الميدان الشجيع الذي ترعى فيه المصلحة العامة دائما.
..واستطرد كثيرا عن دور الرقابة حتى قال " إن مقص الرقابة السينمائية الأمريكية يفعل فعله في الأفلام،التي تعرض الجرائم،والأفلام التي يراد صيانتها مما يسيء إلى الآداب العامة، وما يراعى فيه صيانة المجتمع من الانحراف.
ثم استشهد "توفيق صليب" بفيلم " الخارج على القانون" المنتج عام 1924وهو للمخرج هوارد هيوز وبطولة جاك بويتل وجين راسل وتوماس ميتشل ووالتر هيوستن. أنتج هيوز الفيلم أيضًا..وحقق الرقيب في سرد الفيلم مؤكدا أنه كان واضحا كيف قامت الرقابة الأمريكية آنذاك بالتعرض للفيلم بمقصها حتى حدث الخلل في الفيلم لأن به مشاهد يبدو أنها تخل بالآداب العامة وتسىء إلى المجتمع الأمريكي .. مبررا للمشاهدين في مصر حينها أن الفيلم لم تشوهه الرقابة المصرية بل عرض في مصر كما جاءت به شركة التوزيع.
وفى حادثة أخرى كانت الرقابة المصرية فيها هي المحرك دون خوف عندما قامت بمنع أحد أفلام المخرج وداد عرفي وكان أول فيلم يمنع عرضه في مصر، وهو بعنوان "مأساة الحياة" الذي أنتج سنة 1929.
الفيلم من إخراج وتمثيل وداد عرفي، الذي شاركه العمل في الفيلم كل من الراقصة التركية الشهيرة في ذلك الوقت إفرانز هانم، بالإضافة إلى جونسوانسون وعبدالغني البدراوي..وعرفي من جذور تركية حتى إنه ترك مصر بعدها وقضى بقية عمره في تركيا حتى توفى ودفن فيها.
ومنعت الرقابة الفيلم لأنه يسىء إلى صورة المرأة ويحض على تدمير العلاقات الأسرية؛ حيث تدور أحداثه حول سيدة سيئة السمعة تحاول اللعب على شقيقين في نفس الوقت.. وأصدرت الرقابة بيانا قالت فيه: "إن الفيلم يزخر بالملاهي ومواد الترف، وهو ما استنزف الجزء المهم فيه، مع أن العظة لم تتناول إلا أمتارا قلائل، ولا تترك أثرا عنيفا في المشاهد يعطيه فكرة سامية عن عاقبة الإثم والاستهتار" هكذا كانت الرقابة تتعامل مع السينما، واضعة صور المجتمع في مقدمة اهتماماتها، لا يهمها إن كان هناك محتوى سياسي أو ديني في المقام الأول، رغم أن هذه العناصر تأتى كما هو معروف ضمن المحظورات وهى عدم المس بثوابت المجتمعات والدين والجنس والسياسة.
المهم هو أن المجتمعات مهما قدم فيها من سينما بها مشاهد عنف، لا يمكنها أن تكون هي المحرك والباعث على تصاعد حدته في حياتنا، منعت الرقابة في تاريخنا السينمائي أفلاما كثيرة رأت أنها تسىء إلى المجتمع ثم عرضت.. والدليل ما حدث لفيلمى "خمسة باب" و"درب الهوى" وعرض الفيلمان.. ولم يعد لهما في تاريخنا السينمائى الأهمية الكبرى، فلو عرضا حاليا ما أقبل عليهما الشباب .. خاصة بعد أن أصبحنا في عالم مفتوح .. وما يقدم على شاشات السينما العالمية، ويعرض في مواقع الإنترنت من أفلام عن العنف والجريمة يفوق مئات المرات ما يقدمه محمد رمضان.. وهنا وللمرة الثانية لا نعفيه من المسئولية فدوره لا يجب أن يتوقف عند استفزاز المجتمع بمشاهد العنف أو تقليد الصور الغربية أو الأوروبية من ملابس وتصرفات هى مرفوضة من الأسر لكنها قد تكون منبع تغذية لغرائز بعض الشباب.
خلاصة القول الرقابة دورها لم يتغير، منذ العشرينيات وهى تعمل بنفس المفاهيم والقيود، لكنها لا يمكن أن تقف حائلا دون نمو مثل هذه الظواهر التي تتغذى من منابع كثيرة، منها الظروف الاقتصادية التي تعيشها تلك المناطق، وظواهر انتشار التوك توك، والبطالة، وزيادة نسب الطلاق وغيرها.