لم ير زوجته قبل موتها لوصول رجل البريد متأخرًا.. حيث جاءه رجل بريد من راكبي الخيول برسالة من أبيه من سطر واحد نصها "زوجتك العزيزة في مرحلة نقاهة"، فغادر الرجل واشنطن حتى وجد زوجته قد توفيتْ في أثناء رحلته الطويلة..
ضياع حبيبته جعل منه مخترعـًا كبيرًا، إنه الأمريكي (صمويل موريس) أول من اخترع نموذجًا عمليًا للتلغراف سنة 1835، فأحدث ثورة في مجال الاتصالات، تسمى شفرة مورس Morse code.
التلغراف الذي يـُعتبر أقدم وسيلة اتصال، الآن في طريقه للتوقف والانقراض.. فمثلا الهند أرسلتْ آخر تلغراف سنة 2013، وفرنسا طوتْ خدمة التلغراف في 30 مارس 2018 طاوية تاريخـًا امتد لنحو قرن ونصف القرن من الزمن، أدّتْ فيه هذه الخدمة أدوارًا بالغة الأهمية.
وهنا في مصر التلغراف أيضـًا أوشك على الانقراض، ليصبح في طي النسيان، قديمًا كان الناس ينتظرون البرقيات على شوق وبمزيد من الصبر.. وكان وصول التلغراف إلى المنزل يهز أصحابه، تلغرافات التعازي والتهنئة اندثرتْ، وحلّ محلها رسائل الواتساب، وحتى خطابات البريد اقتصر استعمالها على خطابات المحاكم والرسائل البنكية التي يرغب أصحابها في توثيق وصولها واعتمادها من جهة رسمية للعلم بإخطار من وصل لهم الخطابات، وقد عرف اسم التلغراف من اللغة اليونانية والتي تعني "الكتابة عن بعد"، وقد دخل التلغراف إلى مصر عام 1854 في عصر محمد علي.
في سنوات العمر الأولى كنتُ أحب الجلوس بجوار نافذة القطار لأرى الحقول الخضراء، وأرى أيضـًا الأعمدة الخشبية الصامتة المتصلة بالأسلاك، ولا أدري لماذا كنتُ أحاول عدها!! كأنني أبحث عن المستحيل..عرفتُ بعد ذلك أنّ هذه الأعمدة المتصلة بالأسلاك تحمل بلايين الشفرات؛ لتنقل للناس هنا وهناك كلمات سعيدة أو أخبارًا حزينة.
الآن تراجعتْ الخطابات والتلغرافات، وحلّ محلها وسائل الاتصالات الحديثة المتنوعة، وأصبح الإنسان يستطيع الاطلاع على بريده الإلكتروني، بدون لحظات القلق والتوتر، بسبب تأخر وصول التلغراف، فإذا كان التلغراف يستغرق بضعة أيام، أو بضع ساعات، فإنّ الرسالة المرسلة بواسطة الإيميل تصل بعد ثانية واحدة إلى المرسل إليه، وهذا هو الجانب الإيجابي في تكنولوجيا الاتصالات الحديثة.
تنوّعتْ وسائل الاتصال منذ فجر التاريخ.. بداية من استخدام الدخان (كوسيلة أقرب إلى شفرة للتخاطب)، وكذلك قرع الطبول، ثم الكتابة على الأحجار والرسم، ثم استخدام الحمام الزاجل، في نقل الرسائل لما عـُرف عنه من غرامه للعودة إلى موطنه، مهما بعدتْ المسافات التي يقطعها.
ثم عرف الإنسان نظام البريد الورقي التقليدي، وأصل الكلمة فارسي، وكان البريد يـُنقل بالدواب، وتطور بعد وسائل النقل الحديثة، مثل القطارات والطائرات إلى أنْ وصلنا إلى مرحلة الشبكة العنكبوتية الإلكترونية..
الآن فقدنا ملمس الورق ورائحته الطيبة، وفقدنا الرسائل المكتوبة بالحبر، ولم نعد نعرف ما هي خطوط أحبابنا.. وتوارتْ مشاعرنا خلف وسائل الاتصالات الجديدة..
فهل كانت حياتنا أفضل وأجمل مع الخطابات البريدية وشفرة مورس؟ أم مع التكنولوجيا الحديثة، التي - وإنْ كانت قد اختصرتْ المسافات الزمنية - فإنها في الوقت نفسه باعدتْ بين البشر، بتباعد المسافات الإنسانية؟
علينا ملاحظة ما مرّ بالبشرية من ردود أفعال مع كل اكتشاف عصري حديث، ما بين الترحيب أو السخرية والاستهزاء، مثلما حدث مع بدء انتشار السيارات، مع أول سيارة عام 1886، التي اخترعها (بنز) في ألمانيا، والشيء نفسه مع أول طائرة، إلى مرحلة اختراع (السيارة الطائرة)؛ التي تقلع وتحط على سطح العقار، وذلك للتغلب على ازدحام الطرق بالسيارات العادية.
وكان من بين الساخرين والمستهزئين بالاختراعات الحديثة، الشيوخ المتعصبون، مثلما حدث في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث إنّ سفير الدولة العثمانية في فرنسا (محمد الحلبي) أراد إنشاء مطبعة بإسطنبول فلجأ إلى السلطان وحاشيته ليقنعوا (علماء) الدين بفائدتها، فأمر السلطان شيخ الإسلام أنْ يفتي بأنّ المطبعة نعمة من الله وليست رجسًا من عمل الشيطان كما أفتى (علماء) القرن السابق، فأفتى بجواز إنشاء المطبعة على أنْ تـُمنع من طبع القرآن الكريم وكتب التفسير والحديث والفقه والكلام؛ لأنها كتب دينية يخاف عليها من التحريف، مع أنّ التحريف موجود في الكتب الخطية قبل المطبعة.. ولكنها كانت فتوى بالإكراه فلم تخل من غمز في فائدة المطبعة، مع أنه مضى على اختراعها في أوروبا ثلاثة قرون، وكانت من أعظم أسباب نهضتها.
وقد جاهد الملك عبدالعزيز آل سعود لإدخال التليفون، ولإنشاء محطة للتلغراف، فقال له رجال الدين (يا طويل العمر لقد غشـّـكَ من أشار عليك باستعمال التلغراف) فقال لهم (لم يغشنا أحد.. وليس هناك دليل أو سُـنة)، ولكنهم قطعوا الأسلاك الموصلة إلى قصره! لأنّ هذا منكر يجب إزالته شرعًا.. وكذلك كانوا يرون الدراجات! وسموا الدراجة حين رأوها عربة الشيطان أو حصان إبليس! وقالوا إنها تسير بقوة السحر وعمل الشيطان! وأنكروا الساعة الدقاقة؛ لأنها من عمل الشيطان أيضًا! وكسروا أول ساعة وصلت إليهم - وبحسب رأيهم - أهل الحضر ضالون، وأنّ غزو المجاورين واجب بأمر من الله، وأنّ الملك عبدالعزيز يُوالي الكفار؛ لأنه أرسل ولده سعود إلى مصر، واستخدم السيارات والتلغراف إلخ.. وأصدروا فتوى بهدم مسجد حمزة، ورضخ الملك لهم، فوافق على هدم المسجد، وإلى تعطيل التلغراف.. واعترضوا على تدريس الرسم واللغة الأجنبية والجغرافيا لأنها تـُقرّر كروية الأرض ودورانها (عبدالمتعال الصعيدى – الأزهرى المستنير في كتابه «المجدّدون في الإسلام ــ عبر أربعة عشر قرنـًا» هيئة قصور الثقافة).
على الجانب الآخر وفى نظرة تأملية شديدة العذوبة، توقف الأديب الكبير يوسف إدريس أمام أسلاك التلغراف وأسلاك التليفون، فكتب قصة قصيرة جدًا بعنوان (العصفور والسلك) المنتمية إلى المجموعة القصصية "بيت من لحم": تخيـّـل فيها العصفور الذي اختار أعلى مكان ليقف عليه، فوقف بين عمودين من سلك التليفون.. رفرف بجناحيه وانتشى عندما جاءت وليفته، تشبث الاثنان بمخالبهما البريئة.. وكل منهما يحلق في ملكوته الخاص، ولا يدريان أنهما يقفان على سلك تليفون.. فهذا السلك الصدئ، الرديء القديم، غير القوي، يحمل في شحناته وومضاته الإلكترونية قرارات مصيرية تتعلق بحياة الإنسان وحرياته، تتعلق بالحب والكره، الحرب والسلم وبكل الصفات البشرية، تتعلق بكل المتناقضات، التي تحمل نفس الشحنات داخل السلك...
يحمل في هذه اللحظة بالذات، وفى نفس الوقت، سبع مكالمات معًا، لا شيء في الظاهر يحدث، في الداخل تدور عوالم وأكوان، سلامات، احتجاجات، تحيات، صفقات، وداعات، استغاثات، أرض تباع، بلاد تباع، أصوات غلاظ، صوصوات رقيقات، تختلط الكلمات، تتمازج، تتوحد...
كل هذا الذي يدور داخل السلك من تغيير في مصائر الشعوب وحيواتها، والصفقات التي تبرم وتلغى، والحروب التي تدار، لا يعني العصفور في شيء، فهذا الفعل الإنساني الذي يحمل القرارات والأفعال الإنسانية، ليس إلا مكانًا مريحًا لوقوف العصفور!!.