بين جنبات رحلة الحياة اليومية اللاهثة بين العمل والحياة الأسرية تتوقف النفس في لحظات معينة وتصمت أمام طلب أو رجاء يكون مصدره القلب لا العقل، ويلح عليك في مناجاة الله لتحقيقه، وأنت تأمل بدموعك استجابة السميع العليم.
العام الماضى انتابتني تلك الحالة وأنا أشاهد عبر التليفزيون مناسك الحج، وتمنيت دعوة الله لي لإتمام الفريضة وإسقاطها، ويمر العام ودون مجهود يذكر تأتيني المنحة الربانية، وتتحول المناجاة إلى يقين، وأصبح على موعد مع السفر إلى الأراضي المقدسة مع مجموعة من خيرة زملاء المهنة، يجمعنا الاحترام والود، وكثيرمنهم تجمعنا عشرة السنين الحلوة.
وتبدأ رحلة إتمام المناسك والتنقل ما بين مكة وعرفة ومنى والمزدلفة ورمي الجمرات بمنى، ثم العودة الى مكة لإتمام طواف الإفاضة والمغادرة بطواف الوداع، والدعاء بقبول الحج واستجابة الدعوات.
فى كل مكان مقدس تشعر فيه أن الله معك، وتحوطك الملائكة وتأتيك إشارات القبول بين حين وآخر؛ وقت الاختلاء والمناجاة التي تنزل دموع الرجاء بالرحمة والمغفرة، وتمني العودة مرات ومرات، بالعين التى لا تشبع من رؤية الكعبة، والقلب الذى لا يمل من لقاء الرسول "صلى الله عليه وسلم"، والسلام عليه على عتبة الجنة في الروضة الشريفة عند الذهاب إلى المدينة المنورة، والصلاة في المسجد النبوي.
وعند الحديث عن اقتصاديات الحج والعمرة.. بلا شك أن الجندي المجهول الناجح هو وزارة الحج والعمرة السعودية التي ترعى شئون أكثر من 2.5 مليون حاج سنويًا بإيرادات تصل إلى 25 مليار ريال.
وتستهدف المملكة أن يصل معهم أيضًا عدد المعتمرين سنويا إلى 30 مليون معتمر بإجمالي إيرادات 50 مليار ريال للحج والعمرة؛ ولذا فهي تحمل فوق كاهلها مراعاة شئون الحجاج، وتطوير وتهيئة الأماكن المقدسة لاستقبال الملايين من الحجاج والمعتمرين، والحقيقة أن تأمين الحرم المكي بالداخل والخارج، والنظافة الدائمة لتقليل عدوى انتقال الفيروسات بين ملايين الحجاج على مدار24 ساعة، وإدارة جيش من العمال وأفراد الأمن والمتطوعين من الشباب، وكذلك في الحرم النبوي هو مجهود كبير يحسب انضباطه لوزارة الحج والعمرة.
ويبقى دورها في الأمور اللوجيستية الخاصة بالحجاج وهي تحيله تحت إشرافها إلى المطوفين الذين يتولون تقديم الخدمات للحجاج خلال إقامتهم في الأراضي المقدسة بتسكينهم قبل بدء مناسك الحج، وتوفير النقل والغذاء، فضلا عن حفظ الوثائق الرسمية للحجاج إلى حين انتهاء المناسك (الباسبور) وحل مشكلاتهم، وهذا يعنى أن المطوف هو حلقة الوصل بين الحاج والمملكة؛ وخصوصًا بعد أن صدر أمر ملكي بتحويل مؤسسات الطوافة إلى شركات مساهمة مقفلة لكي تسهم في رفع كفاءة الخدمة المقدمة للحجيج، وهذا أدى إلى تزايد عدد المطوفين والتباري فيما بينهم لكسب السمعة الحسنة بتقديم خدمات مميزة للحجاج وتوفير سبل راحة كثيرة، لكن أصابع اليد ليست مثل بعضها، فهناك عدد من المطوفين يلزم تدني خدماته المقدمة إلى وقفة حازمة من وزارة الحج؛ حيث اللا مبالاة في التسكين اللائق في مخيمات عرفة ومنى ويستغل المطوفون الزحام الشديد، ويضع الجميع في سلة واحدة لا فرق بين حاج يتبع شركة سياحية دفع مئات الآلاف من الجنيهات، وحجاج الفرادى، فبرغم أن كل نوع لديه حقوق في التسكين والتنقل والإطعام، إلا أنهم يتركون الجميع تمامًا، والحاج بدلًا من أن يتفرغ للعبادة والصلاة والدعاء، يجد نفسه منشغلًا بأين يجلس وينام وسط زحام أكبر من سعة كل خيمة، وعدم توافر عدد كبير من دورات المياه؛ فهي جماعية وتميز مكانها بسهولة بين المخيمات من طول الطابورعليها، ولا يوجد بها عمال نظافة ولا صيانة يومية، وينشغل الحاج أيضًا بعد هروب المطوفين بماذا يأكل وأين محلات الطعام؛ ليشترى منها - وهي غير موجودة أساسًا في عرفة أو منى - هذا غيرمشقة الصعود والنزول من أماكن التسكين بجبال منى يوميا لمدة ثلاثة أيام على الأقل، والسير لمسافة لا تقل عن كيلو ونصف متر ذهابًا ومثلهم إيابًا؛ لرمي الجمرات دون مواصلات.
إنه أمر في غاية المشقة للجميع شباب وكبار، فيتهرب المطوف غير الأمين من توفير أتوبيسات خاصة، أو حتى عربات صغيرة مثل سيارات الجولف لتوصيل كبار السن، أو الصعود بهم إلى المخيمات أعلى الجبال، وكذلك في عرفة؛ فالمسافة بين مسجد نمرة ومخيمات عرفة طويلة جدًا عدة كيلو مترات، ولا توجد مواصلات أو لافتات كثيرة توضح الطرق بوضوح، وبرغم وجود نقاط متعددة تسمى مركز التائهين فإنها ليس لديها سلطة توصيل الحاج التائه الذي تركه مطوفه، فدورها لا يتعدى استقبال الحاج بوجه بشوش ومعاملة لطيفة جدًا وتقدم له زجاجة مياه ووجبة جافة وخريطة توضح له السير فقط.
فإلى أن يتم تشديد الرقابة على هؤلاء القلة من المطوفين غير الملتزمين الذين يشوهون مجهود كبير وعظيم تقدمه المملكة في أفضل أيام العام، فإن المملكة يمكن أن تقدم حلولًا سريعة مثل فتح الطرق، والسماح بدخول سيارات الأجرة لهذه المنطقة بتصريح محدد خلال مدة المناسك فقط، وإقامة أكشاك صغيرة تقدم الأطعمة والوجبات الجافة الخفيفة بثمن زهيد في عرفة وعلى جبال منى؛ فهذا بالتأكيد سيحل مشكلات كثيرة، ويدر دخلًا على السعوديين أنفسهم، ويصبح موسمًا ناجحًا للجميع؛ يجتمع فيه المكسب المادي والروحاني، وتصبح مشقة الحج فقط في مجاهدة النفس وإعانتهاعلى طاعة الله، والإكثار من الصلاة والدعاء.
وبشكل طويل الأجل اقترح ان تدرس المملكة إمكان إقامة أنفاق مريحة بسيور كهربائية تحت الأرض للمشاة، أو كباري علوية موازية تسير عليها عدد أكبر من الأوتوبيسات في عرفة، تصل بالحجاج من مسجد نمرة إلى مخيمات عرفة، وتخصص قطارًا يلف جبال منى يتوقف في محطات عند كل مجموعة من المخيمات بكل درجة على الجبال؛ فهذا سيوفر الكثير من المشقة الفعلية على الحجاج.
[email protected]