قادتني مناسبة اجتماعية سعيدة، لحضور حفل زفاف في إحدى قرى محافظتي، الدقهلية، وخلال وجودي الذي لم يتجاوز الأيام الثلاثة سمعت عن أشياء يشيب لها الولدان، كما يصف القرآن الكريم هول "يوم القيامة".
يبدأ الأمر بحفل الخطبة، وفيه يقدم العريس شبكة تتراوح بين 30 و50 ألف جنيه، وعلى أهل العروس أن يقدموا ما يسمى بـ"رد الشبكة"؛ وهي عبارة عن جهازين أو ثلاثة أجهزة كهربائية من بين (ثلاجة، غسالة، تكييف، ديب فريزر، بوتاجاز، وغيرها) هدية لأم العريس، أي أن هذه الهدية لا تستفيد منها العروس شيئًا؛ لأن جهازها سيتضمن مثل هذه الاجهزة.
ثم يقام حفل عقد القران في المسجد، وما يتكلفه من مصاريف، ثم يقام ما يسمى بـ"الشوار"؛ وفيه يتم استئجار سرب من سيارات نصف النقل، لا تقل من 20 عربة، وذلك لنقل المنقولات الزوجية من بيت أهل العروس الى شقة العريس، يتقدمهم فرقة موسيقية أو فرقة مزمار، يحيطها السيدات بالزغاريد والرجال بالتهليل، ولا ننسى أن يتم تصوير "الشوار" بالفيديو لزوم التفاخر، وكلما زاد عدد السيارات، كان أفضل، وليس مهمًا أن تحمل كل سيارة حمولتها، ولكن المهم ان يُقال أن عفش "فلانة" نقلته كم عربة؟
وعلى العريس أن يتكفل بشقة الزوجية، التى يتم تشطيبها، ودهانها بأحدث الديكورات التي لا تتواجد في شقق القاهرة، اللهم إلا في شقق الطبقات الغنية بالأحياء الراقية، أو ما نشاهده في فيلات المشاهير، أو في المسلسلات العربية.
ثم على العريس أيضًا، أن يفرش شقته بالكامل من الموبيليا، والتي تصل إلى خمس غرف (نوم وسفرة وأنتريه وصالون وغرفتي نوم للأطفال)، وأحيانًا هناك من يضيف الركنة.
أما العروس، فهي تتكلف بفرش الشقة كاملة، من سجاجيد وستائر حديثة ونجف وخشب المطبخ والأجهزة الكهربائية كاملة (بوتاجاز وثلاجة وديب فريزر والمراوح والتكييفات والدفايات، وجهاز كمبيوتر أو لابتوب، ولا يقل عن شاشاتي تليفزيون) أما عن الغسالات فهناك ثلاثة أنواع يتم جلبها معًا (غسالة أوتوماتيك وأخرى نصف أوتوماتيك وثالثة غسالة أطفال).
أما عن الفروشات، والتي تتحملها العروس أيضًا، فحدث ولا حرج؛ حيث كانت تفخر إحدى الأمهات أنها تجهز ابنتها الطبيبة في القاهرة - والتي لم تتزوج بعد - بـ250 فوطة (نعم مائتين وخمسين)، أما العقلاء فيكتفون بـ50 مثلا، وأخرى تفاخرت بأنها أعدت لابنتها 150 ملاءة سرير (مائة وخمسين)، أما عن البطاطين فتبلغ 7 بطاطين، و2 لحاف فيبر، و2 لحاف عادي، بالإضافة إلى 7 مراتب ومخدتين لكل سرير، ولابد أن تكون هذه المنسوجات من الصناعة التركية الفاخرة.
أما عن الصيني، وهو على العروس أيضًا، فهناك من تجهز ابنتها بمائة من أطقم الأكروبال، أما الحلل فتتكون من خمسة أطقم من الحلل (التيفال، والجرانيت، والسيراميك، والإستانلس ستيل، والألومنيوم)
وقبل الفرح بليلتين، تقام "ليلة الحنة" فى بيت العروس، وما يتبعه من تأجير فراشة وكراسي وأنوار وديجيهات وميكروفونات، وقبل الفرح بليلة تقام "ليلة حنة" أخرى في بيت العريس، وتتكلف كسابقتها، بالإضافة إلى ليلة الفرح التي أصبحت تقام في صالات خاصة للأفراح، وعلى العريس أن يستأجر سيارات لنقل أهل العروس وضيوفها لصالة الفرح وعودتهم.
وبعد ليلة الفرح، يتكفل أهل العروس بتقديم ما يسمى بـ"الصباحية" وهى عبارة عن "قفص" فاكهة من كل نوع من الفواكهة المتاحة وقتها، بالإضافة إلى أجولة من الأرز والسمن والزيت وغيرها مما يحتاجه خزين بيت العروس، لمدة شهور، أما عن الطعام الجاهز، فترسل أم العروس لابنتها كل يوم طعام الغداء للعروسين يوميًا، بحيث لا يوقد في بيتهما نار لمدة أسبوعين.
وكأنك لكي تبني بيتًا جديدًا، عليك أن تخرب بيتين قائمين: وهما بيتا أهل العريس والعروس معًا، وهكذا غيرت القرية المثل الشعبي المعروف "موت وخراب ديار" إلى "زواج وخراب ديار".
لقد كان آباؤنا الأولون، يتزوجون في هذه القرية، بـ"سرير ودولاب وطبلية"، فمتى تحولت هذه القرية التي كانت آمنة مطمئنة، لتصبح آلة متوحشة، تهرس بين مخالبها الشباب والشابات وأهاليهم، لكي تسمح لهم بإقامة أسرة جديدة؟
بالطبع أنا لا أدعو شباب وشابات القرية للزواج ببساطة الأجداد، ولكن يكفي الضروريات لبدء الحياة الزوجية؛ فالمودة والرحمة التي دعانا إليها الله، ليست بعدد المراتب ولا ملاءات السراير ولا أطقم الحلل ولا الأجهزة الكهربائية الكاملة.
وهل ما يحدث هذا يتفق مع العقل والدين؟! فالاسلام يشدد على أهمية تيسير الزواج، ورسول الله "صلى الله عليه وسلم" يقول "أقلهن مهرًا أكثرهن بركة"، لكيلا يرهق الرجال في مهور الزوجات، ويشق عليهم الزواج والعفاف وتكوين الأسر، ويقول: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". وأليس هذا مما ينطبق عليه قول الله تعالى "إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا".
أما بالعقل فنسأل: كم من الأعوام، أو من الأعمار تحتاجها لكي تستهلك 250 فوطة؟ أو 150 ملاءة سرير؟! أو 7 أطقم من الحلل؟ والله هذه الأشياء سينتهي عمر الإنسان وأبنائه، وربما أحفاده وهي لا تنتهي!! فلماذا تشق الأسر
على نفسها في تجهيز بناتها فيما لا طائل فيه؟ غير التفاخر الكاذب والعادات الاجتماعية المذمومة.
وأنا على يقين أن أهل هذه القرية ليسوا من الموسرين، بحيث يتحملون هذه التكاليف الباهظة، ولعل هذا "التشدد" في تكاليف الزواج، وهو ما يؤدي لبروز ظاهرة "الغارمات" اللاتي يجهزن بناتهن ثم يعجزن عن السداد ويكون مصيرهن السجن.
واعتقد، أن ما سمعته في هذه القرية، ليس فريدًا برغم غرابته، ولاشك أن هناك الكثير من القرى، في الدلتا والصعيد، من يسلك هذا السلوك السفيه.
الأمر يحتاج إلى تغيير كلي وجذري وسريع، فيسروا على أنفسكم، حتى ييسر الله لكم، ولا تتشددوا في تكاليف الزواج، كما تشدد بنو إسرائيل مع سيدنا موسى "عليه وعلى رسولنا الكريم أفضل الصلاة والسلام" عندما أمرهم الله أن يذبحوا بقرة، فشدد الله عليهم.
[email protected]