Close ad

القاهرة التي عرفتها

3-8-2019 | 21:20

القاهرة من العواصم القديمة في العالم، ليست الأقدم، سبقتها أثينا وروما ودمشق وغيرها، لكنها وبعد ألف سنة، وربما العام المقيل، ستتخلى عن كونها عاصمة، عن وظيفتها السياسية والإدارية، لمصلحة العاصمة الإدارية الجديدة، لكنها ستظل القاهرة التي أعرفها، والتي نشأت وتضخمت عبر طبقات تاريخية، وتطور مذهل لبناياتها وقصورها، مساجدها وكنائسها، علمائها ومثقفيها، وجرى احتفال بسيط أخيرًا بمناسبة مرور 1050 سنة على إنشائها.
هذه هي القاهرة التي ولدت وتعلمت وعشت فيها، وبرغم كل زحامها وضجيجها هي تستحق الاحتفال.

ولدت في القاهرة في منتصف الخمسينيات، وكان شارعي في شبرا هو العالم، وآخر الشارع عند الفرن البلدي كان نهاية هذا العالم.. كان قريبًا منا القطار المتجه إلى الإسكندرية، يحمل ركابًا إلى مدن بعيدة، وخرجت من شرنقة الشارع لأركب الأتوبيس الذي يمرق في شارع الترعة البولاقية، والترام المهيب في شارع شبرا، وموقعي المختار هو بجوار النافذة، كنت أقرأ يفط الأطباء والمحلات وإعلانات الأفلام على دور سينما فريال وشبرا بالاس ثم سينما النزهة الصيفي.

أما شارع روض الفرج، فقد كانت به سينما الأمير الصيفي.. وفي شارع شبرا حيث نزهتنا العظيمة كانت سينما صيفي صغيرة، ثم سينما مترو، وقبلها مباشرة في شارع مسرة سينما مسرة، كانت القاهرة بالنسبة لي هي لافتات الأطباء وأفيشات الأفلام، وقد كنت زبونًا دائمًا فيها جميعًا.. اتسعت الرؤية مع الصدمة، ولم أكن كبيرًا كفاية، لم أتمم حتى عمر الحادية عشرة؛ لأرى قاهرة أخرى تنتفض وتبكي وتجأر في الشوارع بسبب نكسة 67، لم يكن لدينا سوى راديو، ولم أر إلا فيما بعد عبدالناصر على الشاشة، وهو يتنحي عن الحكم، ثم أخرج مع الكبار لنقول لا.

بعد ذلك لم يعد الترام يمر من أمام باب منزلي في شارع عبد القادر طه، ولا في شارع شبرا، ولا في مصر كلها، وكثيرًا ما أشيد ببطولة شعب الإسكندرية لأنه لم يفرط أو يسمح بالتفريط في الترام؛ رفعوا شريط الترام عندنا؛ لأنه يعطل الطريق، وتركوا بدلاً منه عشرات آلاف التوك توك، التي تسد الطرق كافة.

كانت القاهرة هي عبدالناصر وخطاباته وأم كلثوم، والخميس الأول من كل شهر، ومقال بصراحة لمحمد حسنين هيكل.. وهي بيوتنا التي قمنا بطلاء نوافذها الزجاجية باللون الأزرق حتى لا تضربنا الطائرات الإسرائيلية، وأقمنا أمام أبوابها حوائط بارتفاع متر ونصف ووضعنا "شكاير" الأسمنت لندافع عنها، أزيلت جميعها باستثناء بيت نادر في شارع الخشاب في روض الفرج رأيته بالمصادفة.

لكنني كنت مدركًا جدًا للحظة بكائي أمام صورة عبدالناصر في الصالون عندما أعلن نائبه أنور السادات وفاته، ويوم الجنازة ذهبت وحدي عبر دوران شارع شبرا حتى كوبري الليمون وفي منتصفه وقفت، لم أتمكن من متر واحد زيادة، فوقفت لألمح الجثمان في ميدان باب الحديد قريبًا من حافة نافورة تمثال رمسيس، وعدت أدراجي، لأتذكر أنني- وفي نفس المكان- حملني أبي على كتفيه قبل ثماني سنوات لأرى خرشوف وعبدالناصر قادمين من داخل محطة القطار أو ذاهبين إلى أسوان.

القاهرة بالنسبة لي كانت شارع المكاسة الذي توقفنا فيه فجأة عن اللعب بالكرة الشراب عندما سمعنا صوت الراديو في 6 أكتوبر يعلن تصدي قواتنا لمحاولات اعتداء إسرائيلية، وعرفنا أنه النصر وهتفنا كصبية ومعنا الكبار في الشارع.

ولما اشتغلت بالصحافة بدأت القاهرة تأخذ منحنى آخر؛ بدأ من مقهى ريش عندما جلست عليها للمرة الأولى في حياتي بموعد مع الأستاذ نجيب محفوظ، وكنت أسأله في تحقيق أكتبه لمجلة "المصور".

هي القاهرة التي لم يكن نجيب محفوظ يريد أن يتركها أبدًا ورسم قوسًا من الحسين إلى ميدان الأوبرا، فوسط البلد ثم قصر النيل، وشقته على النيل، وقبل ذلك وفي بداية حياة الزوجية عوامة على النيل في العجوزة، لم يترك القاهرة أبدًا سوى شهري المصيف في الإسكندرية، لم يسافر خارجها في حياته سوى ثلاث مرات: اليمن ويوغوسلافيا بقرارات عليا، ولندن بقرار الطبيب.

هي القاهرة التي قدت فيها أول سيارة في عام 1988، وفي ذلك الصيف البعيد عشت أيامًا مدهشة أظنها لن تتكرر، اشتريت السيارة في أغسطس، وعادت طابًا عن طريق التحكيم الدولي في سبتمبر، وتم افتتاح الأوبرا في أكتوبر، ثم أيام ويفوز نجيب محفوظ بنوبل، وفي نوفمبر ندخل قصر الرئاسة؛ حيث قلد مبارك محفوظ قلادة النيل، وفي ديسمبر أكون في أستكهولم أغطي صحفيًا مراسم الجائزة..

ياله من عام.. لكنني أعود إلى القاهرة وسيارتي التي أجوب بها شوارعها ليلاً هي المزدحمة نهارًا، فتضعني في تصنيف "كائن ليلي" ليست الجينات الوراثية إنما سحر القاهرة.. ولما أصعد بسيارتي إلى القلعة لأقرأ بعدها عن أن صلاح الدين الأيوبي اختار بناء القلعة في هذا المكان، لأن اللحم لا يفسد فيه إلا بعد أن يفسد في مواقع أخرى، فأعرف أننا كان لدينا فكر معماري قديم، وأن المدن الحقيقية لا تبنى اعتباطًا.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: