Close ad

حتمية تخفيض الدعم

5-7-2019 | 10:57

ربما يكون الحديث عن تخفيض دعم الوقود مزعجًا، وربما يكون قراره مؤلمًا، وأثره في السوق مرهقًا؛ فالغالبية من الشعب تتحمل ارتفاعًا محتومًا للأسعار، وأعباءً ماليةً إضافيةً جراء جشعِ التجارِ؛ إلا أن الحقيقة - التي لا يستطيع أحد إنكارها ولا تجاهلها - أن الإصلاحات المنشودة لا يمكن أن تتحقق في ظل اقتصاد ضعيف يلتهم الدعم فيه أكثر من ثلث الموازنة العامة للدولة، وإذا ما أضفنا مخصصات الأجور والمرتبات، فإن ما تبقى لا يفي بحاجة التنمية، ولا يلبي طموحات شعب يتوق إلى العيش الكريم، ولا يحقق حلم شباب في الحصول على عمل شريف.

إذن نحن أمام تحدٍ صعب ودواءٍ مر لم يعُد تجرعه خيارًا، ولا تجنب تداعياته اختيارًا، ولنا في تجارب الأمم ما يمنحنا دروس الصبر ويفتح أمامنا أبواب الأمل.. عشرات الدول نجحت في تنفيذ برامج للإصلاح الاقتصادي، وصارت اليوم في طليعة الدول التي تنمو وتتطور؛ مثل بولندا عام 1990، وتنزانيا 1995، وكوريا الجنوبية 1997، والبرازيل 2002، وأوروجواي 2002، وغيرها من الدول التي أجرت إصلاحًا اقتصاديًا ناجحًا ومثمرًا.

.. لكن هل مصر على الطريق الصحيح؟

كل مؤشرات الأداء الاقتصادي تؤكد صحة المسار وسلامة القرار، ناهيك عن تقارير مؤسسات التقييم الدولية التي تابعت نتائج التجربة المصرية وأشادت بها في تقارير دورية موثقة، أكدت فيها - وبالأرقام - تجاوز الاقتصاد المصري عثرته؛ فقد حقق النمو ارتفاعًا بلغ 5.6%، والدين العام تراجع إلى 90% من الناتج القومي والبطالة تراجعت إلى 9%، بعد أن كانت 13.3% وعجز الموازنة تراجع إلى 9%.

والسؤال الآخر الأكثر أهمية - والذي يطرح نفسه - هو أين ستذهب مخصصات دعم الوقود بعد رفعها؟ ولعل الأرقام الواردة بالموازنة الجديدة - والتي كانت محل نقاش في اجتماع عقده الرئيس السيسي مع الحكومة قبل أيام - تجيب بوضوح وتكشف بجلاء عن أن هذه المبالغ ستعود مرة أخرى إلى المواطنين في صورة خدمات ومشروعات، إذ إن إجمالي مصروفات الدولة سيرتفع في العام المالي الجديد إلى 1.6 تريليون جنيه بزيادة 150 مليارًا على العام الماضي، وهذه المصروفات تتوزع بقيمة 124،9 مليار جنيه للصحة و134،8 مليار جنيه للتعليم قبل الجامعي و67 مليارًا للتعليم العالي؛ بينما زادت مخصصات قطاع التنمية البشرية بنحو 131 مليارًا، وبإجمالي 326،8 مليار جنيه، مقابل 257 مليارًا، فيما ستزيد الأجور بنحو 131 مليار جنيه؛ لتصبح 301 مليار جنيه مع زيادة المستفيدين من برنامج تكافل وكرامة بعد زيادة مخصصاته إلى 18،5 مليار جنيه.

وبرغم ذلك لا يزال الدعم رقمًا مهمًا وكبيرًا في الموازنة الجديدة؛ إذ إنه  بلغ 328 مليار جنيه، موزعة على قطاعات مهمة تمثل في مجملها مظلة أمان لمحدودي الدخل؛ منها  149 مليار جنيه للدعم السلعي، و3.5 مليار جنيه للنقل، و2 مليار جنيه للتأمين الصحي  و124 مليارًا للمعاشات؛ بينما بلغ دعم الأنشطة الاقتصادية 12 مليار جنيه.

سيخرج علينا دعاة الفتنة، وجهلاء الاقتصاد ليشككوا في الإجراءات، ويطعنوا في الإصلاحات، ويروجوا الشائعات، لا لشيء سوى بث روح اليأس ونشر الإحباط.. هم يسعون فقط لتثبيط الهمم وتهبيط العزائم؛ لكن هيهات أن تنجح مساعيهم أو تتحقق أهدافهم، وحتمًا سوف تسقط المزاعم وتفشل المخططات، فالشعب المصري على وعي بحتمية الإصلاح، وعلى ثقة بسلامة النتائج.

لقد فوجئ العالم بوقفة الشعب المصري ودعمه للإصلاح الاقتصادي، بعد أن شكل ظهيرًا شعبيًا داعمًا ومساندًا لكل الإجراءات والسياسيات التي تم اتخاذها خلال السنوات الماضية، وتحمل عن طيب خاطر أعباءها وتداعياتها.

واليوم مع وصول هذا البرنامج إلى محطته النهائية بالإجراء الأخير في منظومة دعم الوقود، وبالتزامن مع انتهاء مدة الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، تدخل مصر مرحلة جديدة نحو المستقبل متسلحة باقتصاد قوى، قادر على التطور والتقدم ذاتيًا دون الاعتماد على قروض خارجية.. اقتصاد يرتكز على أسس راسخة، وقواعد اقتصادية واضحة تعلي من قيم العمل والإنتاج، وتفتح الطريق أمام تنمية شاملة مستدامة توفر حياة كريمة لكل المواطنين، وتدعم حقوقهم في تعليم جيد، وخدمة صحية بمعايير عالمية وسكن كريم.

وإذا كان إصلاح منظومة الدعم والانتهاء من اتفاق صندوق النقد يعد انجازًا اقتصاديًا كبيرًا؛ فإن ذلك لا يعني أن كل المشكلات الاقتصادية قد انتهت، وأن الأزمة قد تلاشت؛ بل يمكن القول بأن نجاح مصر في الإصلاح الاقتصادي يلزمه برنامج وطني جديد يحافظ على ما تحقق، ويعظم من مكونات اقتصادية صارت مؤهلة للعمل بكفاءة أقوى وقدرة أشد، وأحسب أن الحكومة أصبحت مطالبة بحزمة سياسات لما بعد برنامج صندوق النقد تضع محدودي الدخل في صدارة الاهتمام.. وتضبط أداء السوق وتمنع المغالاة في الأسعار، وتوفر مظلة اجتماعية أوسع تحمي محدودي الدخل من تداعيات متوقعة.

مصر اليوم مؤهلة لأن تحتل مركزًا ماليًا إقليميًا، بعد أن تمكنت من بناء أكبر وأقوى بنية تحتية، وتستطيع أن تستقطب رؤوس الأموال العربية والأجنبية، وهي بالفعل بدأت تتدفق في مشروعات كبرى ستغير وجه الحياة في مصر بالكامل.

.........

لا أقول ذلك من باب دغدغة المشاعر، ولا من قبيل التخفيف من معاناة يشعر بها الجميع؛ لكن كل الحقائق المدعومة بالأرقام تؤكد أن ثمار الإصلاح باتت أقرب والحصاد سيكون وفيرًا بإذن الله.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة