مع بداية شهر رمضان الكريم، تستعد القنوات الفضائية لبث الجديد من الأعمال الدرامية والبرامج، سعيًا لتحقيق أعلى نسب مشاهدة، وبالتالي ارتفاع قيمة الفواصل الإعلانية، ومنها تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح، وربما جاء من هنا تسمية شهر رمضان بـ"شهر المسلسلات"؛ لأن شركات الإنتاج توقفت تقريبًا عن إنتاج أي جديد خلال العام، سوى هذا الشهر.
وقد فوجئنا هذا العام بالشركة المنتجة لمسلسلات رمضان تعلن الاتجاه إلى عالم التطور التكنولوجي والتطبيقات ذات الاشتراك المدفوع مقدمًا، لتحقيق مكسب مزدوج؛ حيث استقرت على عدم طرح مسلسلاتها والتي تُقدّر بـ15 عملًا دراميًا، على موقع "يوتيوب"، وقررت إطلاق تطبيق خاص بها بعنوان "!Watch iT"، عبر منصات "جوجل بلاي"، تطرح من خلاله مسلسلاتها وبرامجها.
وبالفعل أطلقت الشركة التطبيق بشكل مجاني لمدة أسبوع واحد فقط، ثم من بعده تبلغ قيمة الاشتراك 99 جنيهًا شهريًا، و555 جنيهًا بشكل نصف سنوي، و999 جنيها لمدة عام، ويضم الموقع أقسامًا مختلفة، للمسلسلات والبرامج والأفلام والرياضة.
وبرغم أن أحدهم كتب ساخرًا: أن الفكرة رائعة وتقدر فعلا تنافس أقوى التطبيقات التي من هذا النوع مثل "نيتفليكس" و"يوتيوب" وغيرهم، ولكن هناك مشكلة بسيطة، تافهة، لا تذكر وهي أن السيرفير واقع ولن تتمكن من رؤية شيء أساسًا، ويبدو أن هناك خطأ فنيًا بسيطًا، وهو أن التطبيق نفسه "اتهكر" والبيانات اتسربت ومن سيضع "الكريدت كارد" فهو معرض للسرقة، وبعيدًا عن هذه السخرية، دعونا نناقش مدى نجاح مثل هذه الفكرة.
ففكرة التشفير موجودة بالفعل في مجالي الرياضة والدراما الأجنبية تحديدًا، وإذا كانت ناجحة رياضيًا، فذلك لما نجده من إثارة في متابعة دوريات كرة القدم العالمية التي تقدم أفضل وأمهر وأغلى لاعبي العالم، حتى أصبح لكرة القدم العالمية مشجعون لفرق بعينها بين المصريين، ففي الدوري الإسباني تجد من يشجع برشلونة، أو ريال مدريد، أما في الدوري الإنجليزي، فالأمر لا يقتصر على فريق أو اثنين؛ بل هناك مشجعون للعديد من الفرق الإنجليزية، وقد فاق هذا التشجيع والحماس، حتى الفرق المصرية الشهيرة كالأهلي والزمالك، وأصبح عشاق كرة القدم ربما لا يشاهدون الدوري المصري، للفرق الواضح في المهارات بين ما يشاهدونه في أوروبا وهنا.
إذن فالهوس الكروي، والدراما الرياضية المستمرة، تسمح بنجاح مثل هذا التشفير، أما في الدراما، فإن الأمر مختلف، فالمسلسلات والبرامج تذاع بالفعل على الفضائيات، وربما من يفضل مشاهدتها لا يحتاج إلى الاشتراك في "تطبيقات مدفوعة" حتى يشاهدها، وإذا كان الهوس الكروي مرتبط بالرجال أكثر، فإن الهوس الدرامي مرتبط بالسيدات أكثر، وأظن هن أحرص على مشاهدة المسلسلات فور إذاعتها فضائيًا، من ناحية، ومن ناحية أخرى، هل ما يتم تقديمه من مسلسلات يمكن أن يجذب المشاهد ليدفع مقابل ما يشاهده؟
لابد أن نعترف أن الدراما المصرية منذ سنوات طويلة قد فقدت ريادتها، وأهميتها، وأصبحت في مرتبة متدنية في هذا المجال، فالمنافسة لم تعد محلية، كما هو الحال قديمًا، عندما كنا أسرى لما يذيعه التليفزيون المصري، ولم يكن أمام المشاهد حيلة سواه، فالآن مع انتشار الفضائيات والنت، أصبح أمام المشاهد أنهار لا نهائية من الدارما العربية والأجنبية المترجمة والمدبلجة، وأصبحت الدراما الأمريكية لها الأولوية الأولى، ثم التركية، فالسورية، أو الهندية، ثم تأتي المصرية في المؤخرة لتنافس الدراما العربية الأخرى والخليجية.
ويجب أن نعترف أن هذا الوضع قد وصلنا إليه، عندما رحل أو توقف كثير من كبار كتاب الدراما أمثال أسامة أنور عكاشة ومحفوظ عبدالرحمن، ومحمد صفاء عامر، ويسري الجندي، ومحمد حلمي هلال.. وغيرهم، من ناحية، وتوقف الدولة عن الإنتاج الدرامي من ناحية أخري.
وأصبح الأمر في يد شركات القطاع الخاص، فأصبح المهم لديها هو اختيار "البطل النجم" بدلًا من "الفكرة" التي هي أساس نجاح العمل الدرامي؛ بل يتم التعاقد مع بطل المسلسل قبل كتابة الورق، والذي يقوم بدوره في التحكم في كل الأحداث، حتى ولو بدت غير منطقية، وأصبح هم المؤلفين الجدد والممثلين، هو مط المسلسل، وحشوه بالرغي؛ بغض النظر هل تتحمل الأحداث هذا "المط" أم لا، فالمهم هو زيادة عدد الحلقات؛ لأن الأجر يتحدد بالحلقة، وربما كانت هذه هي بداية تخلي الدراما المصرية عن ريادتها العربية، واحتلت الدراما السورية مكانتها، هذا غير الدراما الأجنبية المدبلجة والمترجمة، التي لا أريد أن أقارنها بالمصرية؛ لأن الفرق واضح يدركه الجميع.
هذا من حيث مضمون الدراما، أما من حيث الكم، فإذا كان إنتاج الدراما يرتبط بشهر رمضان الكريم، فكيف للمشاهد أن يشترك في "تطبيق" سنوي، لا يعرض له الدراما سوى شهر واحد في العام؟ وهل شركات الإنتاج المصرية لديها القدرة على إنتاج كم درامي، يغطي العام كله، حتى ينجح مشروع التشفير هذا كما هو الحال في الخارج؟
من المعروف، أن موقع "يوتيوب" يتيح لمن ينشئ قناة فيها، ويتمتع بعدد معين من المعجبين والمشاهدات، أن يحصل على نسبة من عائد الإعلانات التي تبثها عبر هذه القناة، وبعض أصحاب القنوات الشخصية، أصبحت لديهم مشاهدات بالملايين، ويجنون من خلال قنواتهم آلاف الدولارات شهريًا، فأعتقد أن إنشاء قناة لشركة تبث من خلالها أعمالها الدرامية والبرامجية، ممكن أن تجني من خلاله أضعاف ما يجنيه شخص هاو صاحب قناة شخصية، وإذا كان الاشتراك السنوي لمشاهدة التطبيق المقدر بـ 1000 جنيه، أي حوالي 55 دولارًا، فالشركة يمكن أن تحصل على أضعاف ما ستحصل عليه من اشتراكات المصريين، التي ستكون محدودة للظروف الاقتصادية الصعبة التي نعيشها، فالتشفير، يحتاج إلى مقومات، أعتقد أنها غير متوافرة حاليًا في الدراما أو البرامج المصرية.