طريق الحرير أخذ اسمه من أهم تجارة مرت عليه عبر القرون، وهي الحرير الذي كانت الصين تحتفظ بأسراره، لأسباب تجارية، وكان الإعدام مصير من يفشي بالسر، وبرغم اسمه، فإنه نقل سلعًا أخرى كثيرة، وجيوشًا وغزاةً ورحالةً ولصوصًا ومصاهرات ومبشرين من كل الأديان، ونبتت عليه الأطماع الاستعمارية والاقتصادية.
هو الطريق الذي ربط العالم من بكين شرقًا إلى شواطئ البحر المتوسط غربًا، ومنها إلى أوروبا لخدمة كل هذه الأغراض، تصور الطريق مع الزمن القديم شيء من الأسطورة، أن يمر عبر كل تلك الممالك والمهالك، والسهول والجبال، والرمال الساخنة والثلوج.. لكنه ومع الاضطرابات السياسية والحروب والتطور في وسائل النقل البحري، فقد الطريق أهميته ونساه العالم، وإن ظلت أحلام إعادته تراود الكثيرين.
ومن هنا تأتي أهمية قمة الصين الأخيرة؛ لإعادة إنتاج طريق الحرير بمواصفات جديدة؛ لأن هذا الطريق بالذات نادرًا ما كان مفتوحًا من بدايته في بكين لمنتهاه شرق المتوسط طوال الوقت؛ لأن النزاعات والانقسامات لم تتوقف يومًا بطول البلاد التي يمر منها الطريق.
كما كان طوله ومخاطره وتضاريسه الصعبة تجعل من الصعب على الإنسان أن يقطعه ذهابًا وعودةً في حياته مرتين، قلة فقط من نجحت في ذلك، ولكن الآن فإن التطور المذهل في وسائل النقل والاقتصاد ولغة المال والمصالح بوسعها تغيير العالم.
عمر طريق الحرير ألفي سنة، وطوله خمسة آلاف كيلو متر، ومحاولات احيائه من جديد لا تتوقف، ولعل المحاولة الأخيرة التي تقودها الصين تنجح.
وكمعلومة مهمة؛ فإن طريق الحرير فقد وظيفته مع غروب عهد دولة المغول التي وحدت آسيا تقريبًا، وثبتت الاستقرار، ونتج عن اختفاء المغول عودة الانقسامات والاضطرابات، ففضل التجار استخدام طرق بحرية لتجارتهم مع الشرق البعيد في آسيا؛ ربما في الحالة المصرية كان لاكتشاف طريق بحري يدور حول إفريقيا - هو رأس الرجاء الصالح - تأثير ضار على الأوضاع في البلاد، حيث كان أحد أسباب انهيار دولة المماليك، بعد أن كانت كل تجارة بين الشرق والغرب تمر بمصر.. وبعدها جاءت عصور الظلام العثماني..
لكن ظل طريق الحرير مسيطرًا على ذهن الرحالة والمغامرين، كما تمنت دول إعادته، وتحركت في هذا السبيل خطوات لم يكتب لها النجاح، لإحياء مدن قديمة؛ ولأغراض سياسية واقتصادية، ولكن الثقة التي اكتسبتها المعجزة الصينية، جعلت دولًا عدة - ومنها مصر - تتوقع إنجاز إحياء الطريق فعليًا هذه المرة.
والسؤال المهم كيف نكون جزءًا من هذا الطريق الذي يجري التخطيط حاليًا لإعادته من ذمة التاريخ إلى قبضة الحاضر؛ لأن مصر برغم عدم آسيويتها كانت محطة مهمة يبدأ عندها الطريق أو ينتهي فيها، قبل محطته الأوروبية. وشارك الرئيس السيسي في قمة مبادرة الحزام والطريق الأخيرة في الصين، وكانت بكين قد أعلنت مبادرتها قبل ستة أعوام، لإعادة بناء الطريق وشبكة ممراته البرية والبحرية، في 65 دولة، عنوان المبادرة هو "طريق واحد.. حزام واحد"، أي بناء "حزام" طريق الحرير البري و"طريق" الحرير البحري، برأس مال 40 مليار دولار أمريكي.
وفي المخطط النهائي لإحياء الطريق فإن قناة السويس - وهنا النقطة التي تهمنا أكثر من غيرها - ستكون مركزًا لوجستيًا للسفن والبضائع، وبالتالي تجارة الخدمات والترانزيت والاستثمارات.
ومن المتوقع الانتهاء من طريق الحرير في عام 2030، وهي نفس السنة التي تستهدفها الحكومة المصرية بـ"إستراتيجية التنمية المستدامة 2030". ومن بنود هذه الإستراتيجية الكثير؛ مما يمكن أن يكون له صلة بطريق الحرير؛ على سبيل المثال استكمال الشبكة القومية للطرق، لكن تظل قناة السويس ذات أهمية قصوي، فهذا المشروع العملاق - الذي تم توسيعه قبل ثلاثة أعوام - مازال يدر لمصر الكثير من المال، ومازال على مكانته كأهم ممر مائي في العالم.
ولقد تابعنا قبل يومين عبور أضخم سفينة ركاب في العالم، والتي دفعت ما يقارب المليون دولار كرسوم، ومن هنا فإنه بإمكان هذه القناة - وبعد توسيعها - أن تكون محطة مهمة في المبادرة، خصوصًا بمشروعاتها الطموحة؛ كمشروع تنمية محور قناة السويس، وتحويله إلى مراكز صناعية وتجارية ولوجستية، تتعامل مع الدول الأوروبية والإفريقية ودول المغرب العربي.
ويجب أن نلاحظ أن طريق الحرير - الجاري التخطيط لإعادته - لا يستهدف إفريقيا فحسب؛ إنما العالم شرقًا وغربًا، والربح للجميع، لكن عوائده الكبيرة تفوز بها الدول الأكثر جاهزية، من حيث الإنتاج الصناعي والزراعي، والدول الأكثر استعدادًا لتلقي الاستثمارات والتي لديها عمالة مدربة وشباب متعلم، ومدنها ووسائل مواصلاتها وطرقها جاذبة؛ لأن الطريق سيكشف الغطاء عن كل المدن التي سيمر بها، يعري عيوبها وسلبياتها ويضخم مزاياها.
ولذلك فإن تزامن الإستراتيجية المصرية المعلنة قبل عامين والموعد المحتمل للانتهاء من الطريق، يطالبنا بأن نأخذ الأمور بجدية، وأن تصل مصر إلى تنفيذ كامل وأمين للإستراتيجية الخاصة بها؛ لأن الدول الأخرى - وخصوصًا الصين - لن تنتظر، وإذا تأخرنا عن تحسين نوعية الحياة في مصر؛ فإن طريق الحرير سينفذ؛ ولكن سنكون مجرد بلد يمر بها.