Close ad

ابن النيل يكتب: سر الحضارة (5)

13-2-2019 | 17:26

ارتبطت التنظيمات المائية في الحضارة الصينية ارتباطًا وثيقًا بالنظام الفلسفي الصيني الذي نجد ركيزته الأساسية في فكر "كونفشيوس" الفيلسوف والمعلم الصيني الذي أسس فلسفته ومذهبه على القيم الأخلاقية، وأثرها على السلوك الإنساني، وارتباط ذلك بنجاح المجتمع.

انطلاقًا من ذلك، يمكن ملاحظة أن فكرة الارتباط بين النظامين الاجتماعي والكوني قد وصلت لدى الصينيين القدماء إلى درجة العقيدة، بما تعنيه تلك الكلمة وما تفرضه على المواطنين والنظام الحاكم من التزام بضرورة احترام كلا النظامين لضمان نجاح الحياة.

قناعة وإيمانًا بأن التناغم والوحدة التي تسود في النظام الكوني تنعكس بشكل مباشر على سلوك البشر تجاه أنفسهم وتجاه المجتمع.

ووفقًا لذلك كانت لدى الصينيين القدماء قناعة كاملة بعدم ضرورة الربط بين نجاح النظام المجتمعي والحاجة إلى وجود قانون، حيث إن القواعد والأعراف هي التي تحدد للناس السلوك الأخلاقي المتناسق مع النظام الطبيعي الذي يجب الالتزام به.

غير أن فلسفة الاستناد إلى القيم الأخلاقية وحدها لم تلق إلا معارضة شديدة من جانب فقهاء القانون الذين رأوا بحكم تخصصهم أن القانون هو وحده المنوط به حكم العلاقة بين البشر.

وللتوفيق بين هذا وذاك تم التوحيد بين النظريات الكونفشيوسية من جانب وآراء وأفكار الفقهاء القانونيين من جانب آخر، ليظهر ما عرف بالتنظير الكونفشيوسي للقانون، والذي يعتبر الميلاد الحقيقي للنظام القانوني الصيني.

وقد ألقى كل ما سبق بظلاله على التنظيمات المائية الصينية، والتي يمكن التعرف عليها من خلال ما يعرف بالـ Li-Chi أو القوانين الشعائرية الرسمية، حيث نجد فيها العديد من الفقرات التي تشير إلى سلوك الحاكم في إدارة وتنظيم الموارد المائية، الذي يتناغم ويتوافق مع سلوك الطبيعة وفصول العام.

مثال ذلك "في فصل الربيع تبدأ الحياة، وتسقط الأمطار من السماء على الأرض، فتجري المياه وتروي الحقول، وفي أشهر الصيف تبنى السدود لتخزين المياه؛ لاستخدامها فيما بعد، ثم تأتي أشهر الشتاء فتتوقف الحياة وتبدي قسوتها، ويبدأ فحص الأشغال المائية وجمع معدلات المياه والضرائب، ومعاقبة المذنبين" …..إلخ.

على المستوى الإداري كان موظفو الحكومة يستمدون سلطتهم في إدارة شئون المياه من إرادة الإمبراطور مباشرة، فكانوا يصدرون القرارات والتنظيمات بما يتوافق مع سلوك النظام الطبيعي، بمعنى آخر ما يجب القيام به من أعمال وإنشاءات تناسب كل فصل من فصول العام، أو للتعامل مع ظواهر طبيعية كالفيضانات وفترات الجفاف.

وفى عهد الإمبراطور (207ق.م – 249) Shih-Huang-Ti  ـ بلغ التطور القانوني ذروته، ولكن مع غلبة آراء القانونيين في مواجهة الفكر الكونفشيوسي، غير أنه في مرحلة لاحقة (200 ق.م ـ 618 ب.م) تم توثيق وتدوين النظام القانوني الصيني القائم، لكن مع تقديم الفكر الكونفشيوسي، ثم صدر قانون خاص بالمياه في عام 111 ق.م ظهر فيه مبدأ المساواة في المياه، كما وضع الأرض وموارد المياه تحت سلطة المشرف على الزراعة، وأوجد وظيفة المسئول الفني عن المياه،  واعتبر هذا القانون البحار والبحيرات والينابيع والأنهار والمستنقعات خزانات للمياه، تناط مسئوليتها بمكتب الـ Shu-Fu / سكرتير المالية.

ويلاحظ أن مفهوم الملكية الخاصة للمياه لم يوجد على الإطلاق في قانون المياه الصيني، فالحكومة مسئولة عن تشييد وصيانة وإصلاح الأشغال المائية، وجميع الأنشطة المتعلقة بالمياه كالملاحة، التحكم في الفيضان، شبكات المياه، السياسات المائية. واقتصرت الممارسة الفردية على الري والصيد، كما تضمن القانون عقوبات خاصة بالجرائم المتعلقة بالانتهاك المتعمد لحقوق الميـاه وتنظيماتها.

أمر أخير ومهم يتعلق بمبدأ المساواة في المياه المشتركة بين أكثر من دولة الذي ظهر واضحًا في تلك الحضارة، نجد القوانين الصينية وقد أقرت حق الدول الواقعة أعلى النهر في استخدام المياه؛ للوفاء باحتياجات السكان، بشرط عدم احتكار المصدر والإضرار بالدول الأخرى.

 

كاتب المقال: استشاري شئون المياه

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: