مراكز الشباب والإنقاذ السريع

14-8-2018 | 16:44

قبل نحو تسعة أعوام تلقيت دعوة لحضور حفل خطوبة لعزيزين على قلبي، تعجبت حين وجدت أن القاعة المقام فيها الاحتفال في أحد مراكز الشباب في قلب القاهرة.

فعلى حد معلوماتي، فإن مراكز الشباب هي أقرب ما تكون إلى النوادي الرياضية والثقافية والاجتماعية، تُمارَس فيها الرياضة، وتقام فيها فعاليات ثقافية، وتٌعتبر مكانًا للتلاقي والتسامر.

ليلتها فوجئت بظلام دامس في المكان، وذلك على الرغم من الموسيقى الصاخبة المتضاربة الصادرة من أكثر من قاعة، وبينما أتلمس طريقي، وجدت شبابًا جالسين في الظلام الدامس ساكتين لا يتكلمون، وقطع مشهد الحقن البلاستيكية الملقاة على الأرض شكي باليقين.

وفي صباح اليوم التالي تعمدت المرور من أمام المركز نفسه، بدا المكان مهجورًا تمامًا، ولولا تلال القمامة الناجمة عن حفلات أفراح وخطوبة الليلة الفائتة لظننت أن المكان لم تطأه قدم منذ سنوات، لا مباراة كرة قدم، أو تمرينات سباحة، أو مجموعات شبابية تجلس في الهواء الطلق.. سكون تام.

تذكرت هذه الواقعة هذه الأيام ونحن نضرب أخماسًا في أسداس حول ما لحق بشبابنا من تحلل أخلاقي ووهن فكري وضعف انتماء وسطحية معلومات، ناهيك عن أخطار الانجذاب لجماعة إرهابية هنا أو مجموعة تتاجر بالدين هناك، أو حتى إهدار العمر جلوسًا في المقهى أو وقوفًا على الناصية.

مصر ذات الانتفاخة الشبابية الحادة – حيث أكثر من نصف السكان شباب دون سن الـ35 عامًا و6.33 في المائة من المصريين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عامًا- لديها ثروة حقيقية اسمها مراكز الشباب، وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن لدينا 4072 مركز شباب فيها 12 ألفًا و225 ملعبًا!! وبعض هذه المراكز مزود بحمامات سباحة!! فهل تعمل هذه المراكز بكامل طاقتها؟ أو على الأقل هل تعمل بنصف طاقتها أو حتى ربعها؟ أغلب الظن أن الإجابة "لا"، وإلا لما كان هذا هو حال المراهقين والشباب في شوارعنا.

شوارع المحروسة تتحدث عن مكونها الشبابي، الآلاف من الأطفال والشباب ممن امتهنوا قيادة التوك توك غير المرخص، وغير الآمن باعتبارها مصدرًا سريعًا للرزق، أو بالأحرى الكسب المادي الكبير، وغيرهم ممن أصبحوا يعملون عيني عينك وفي وضح النهار - وبرغم أنف قانون الطفل - في مهن تتراوح بين عمال نظافة في الشوارع والمحلات، ناهيك عن التسول وغيره، لا تعرف شيئًا عن مراكز الشباب تلك، وإن عرفوا فهو ما سردته في البداية.

وبدلًا من أن تكون هذه المراكز إحدى الركائز القوية والمضمونة لدفع مصر وشبابها بعيدًا عن هاوية الإرهاب والتطرف بنوعيه الديني والسلوكي، وبدلًا من أن تحتضن هذه المراكز نصف سكان مصر من الجنسين رياضيًا وثقافيًا واجتماعيًا، لا سيما في شهور الصيف وعطلة نهاية الأسبوع، فإنها تبدو مغلقة على نفسها.

مراكز الشباب المصرية يجب ألا تكون منافذ لبيع اللحمة والفراخ – حتى لو كانت بأسعار مخفضة، ولا ينبغي أن تكون مراكز تروج لتيارات سياسية بعينها – حتى لو كانت تمثل الغالبية، ولا يصح أن تتحول زوايا دينية – حتى وإن كانت تقدم خطابًا وسطيًا.

مراكز الشباب هي نواد رياضية وثقافية واجتماعية للشباب من الجنسين، وإذا كان أبرز ما ضرب مصر والمصريين من عوار هو التجريف الثقافي، والتطرف الديني، والتخلي عن الهوية على مدار عقود مضت، فإن هذه المراكز تمثل نقطة انطلاق مثالية.

ممارسة الرياضة بوابة نحو الأخلاق الرياضية؛ حيث لا مجال للحديث عن الفوقية الدينية أو الطبقية الاجتماعية أو المحسوبية والانتهازية، والثقافة من غناء ومسرح وقراءة وكتابة ونقاشات واكتشاف مواهب.. وغيرها أداة لتنظيف الأذن مما لحق بها من أتربة وفيروسات، بالإضافة إلى قدرتها على استعادة الوعي المفقود والهوية المسلوبة. والنواحي الاجتماعية من تلاق وتعارف وترفيه سمة من سمات البشر، وحاجة رئيسية من حاجاتهم.

حان وقت فتح ملف مراكز الشباب المصرية المنتشرة في الجمهورية، ودراسة مشكلاتها دراسة حقيقية وسريعة، ووضع تصور للحلول، ولا أظن أن الرئيس عبدالفتاح السيسي سيضن عليها بالجهد أو الاهتمام؛ لتصبح وسيلة من وسائل علاج الآفات المستمرة في مهاجمة الشباب والمراهقين، وأداة من أدوات الوقاية، بالإضافة لقدرتها على أن تكون معملًا رياضيًا وثقافيًا واجتماعيًا يساعد على إنتاج موديل جديد من الشباب المصري.

الشباب المصري في حاجة ماسة إلى تضافر قوى الجميع، ومن غير المقبول أن يبقى المثقفون مقفولًا عليهم أبوابهم الثقافية والفكرية، وأن يبقى أهل العلم والمعرفة الحقيقية حبيسي الجلسات المغلقة، وأن يهدر كبار السن من أصحاب الخبرات والطاقات والتجارب التي تستحق النقل والاستنساخ أيامهم في اجترار ذكريات زمان وأناقته، والبكاء على عشوائية الحاضر وقبحه.

وبدلًا من جلسات أصحاب المعاشات من الكوادر السابقة في شتى المجالات في النوادي الرياضية الفاخرة، لماذا لا تتحول نقاشات مفتوحة مع شباب وشابات مراكز الشباب المجاورة.

أعضاء النوادي الراقية عليهم مسئولية مجتمعية – شأنهم شأن الشركات - تجاه الشباب في المناطق الشعبية، بوتقة الأفكار التي تصب في المصلحة العامة لا تنضب، لكنها تجف تحت وطأة التجاهل.

مراكز الشباب قادرة على أن تتحول معامل لنقل التجارب، وتبادل المعارف، وزرع الجمال والتذوق في نفوس أنهكها القبح، وقلوب أنضبتها القسوة.

لماذا يكون لدينا مركز شباب جزيرة واحد؟ ألا يمكن تعميم التجربة؟ شباب مصر وشاباتها يستحقون الإنقاذ السريع.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الحداية والكتاكيت و"أونروا"

الحداية والكتاكيت و"أونروا"

من ألماظة لميدان سفير

من ألماظة لميدان سفير

"صلاح".. وتوليفة القوى الطاردة

"صلاح" وتوليفة القوى الطاردة

خروف ببدلة ومعايدات مليونية

خروف ببدلة ومعايدات مليونية

هويتنا المسلوبة

هويتنا المسلوبة بعد الربيع العربي في يناير 2011

البشر وطريق السويس

أقطع طريق القاهرة السويس من الشروق ومدينتي إلى مصر الجديدة ووسط القاهرة والعودة يوميًا؛ لذلك أعتبر نفسي مرجعية في هذا الطريق، لا سيما أنني لا أكتفي بمجرد

قليل من التدقيق لا يضر

في هذا المكان قبل سبعة أسابيع بالتمام والكمال، كتبت مقالاً عنوانه "إشاعات شائعة"، وبرغم أن الأجواء العنكبوتية والأحاديث الشارعية حينئذ لم تكن قد بلغت ما

سكان يسيرون على أربع

سكان يسيرون على أربع إنهم الكلاب والقطط والدواب

كثرة غثاء السيل

إنجاب الأبناء والبنات سمة من سمات البشرية، وتحديد العدد صفة من صفات العقلاء.

تعدية الشارع

"تعدية الشارع"! عبارة تبدو قصيرة وتقدم نفسها باعتبارها تحصيل حاصل، ليس هذا فقط، بل إن البعض يتعامل معها وكأنها سمة طبيعية من سمات الحياة اليومية، لكن كلا

عن الكرة والشارع والرمز

الغضب والحزن والهري ستستمر أيامًا، ثم ما تلبث أن تذهب إلى حال سبيلها، ولن تعود إلا بحدوث موقف أو موقعة أو حادث مشابه لتعاود عملها بكامل عدتها.

الناس والدولة

​من ضمن ما خرجنا به من رمضان جرعة إعلانية ضخمة جديرة بالبحث والتقصي والدراسة والتحليل. وبعيدًا عن مستوى الإعلانات وقيمتها الإعلانية والإعلامية، ننظر إلى

الأكثر قراءة