Close ad

23 يوليو العُماني...!

24-7-2018 | 14:43

في إحدى زيارات أستاذي أنيس منصور إلى سلطنة عمان، وقد عشت فيها ربع قرن من الزمن الحي المتحرك (1984 / 2010)؛ وهي فترة شديدة الحساسية السياسية عمانيًا وإقليميًا ودوليًا، سألني وهو يرفع حاجب الدهشة: أين صورة السلطان قابوس في الصحف اليومية وعلى شاشة التليفزيون.. لي أربعة أيام وأنا أتابع وسائل الإعلام ولم أشاهده ولم أسمع عنه(!!).

قلت: إنه يؤثر الهدوء ويبتعد عن الصخب الإعلامي المشهود هنا وهناك، ولا يظهر في وسائل الإعلام إلا للضرورة.

لقد خلَّق النواة الأولى لرسالة الإعلام في المجتمع الجديد إذ قال: "إذا كنت أكره شيئًا فهو الإبهار في الإعلام، أريد أن يأخذ كل شيء حجمه الطبيعي".

قال: كم هو حاكم مختلف..!

أستدعي هذا الموقف وهذه الدولة العريقة والحديثة معًا تحتفي اليوم بمناسبة من أغلى مناسباتها الوطنية والقومية يوم انبثاقة فجرها الجديد في الثالث والعشرين من شهر يوليو عام 1970، وها هي على مشارف نصف قرن من حاضرها العصري المتواصل مع حضارتها الحية تحتفي وتحتفل كمنظومة عمانية عربية تقول إن من حقنا القومي أن نفرح بكل تجربة عربية تضيف وتضفي، وإن من حقنا العربي أن نفرح ونعتز، في زمن عز فيه الاعتزاز، وصار الاهتزاز الحضاري عنوانًا كبيرًا في جريدة وجودنا، ومقالا مطولا في صحيفة تواجدنا، وكفانا التوهان في عصر الاستعارة، وتقول أيضًا إن من حقنا الإنساني أن نفرح بصوت الذات، وأن نطرح سوط جلد هذه الذات، وأن نفسح الطريق لكل من يحلق بالرؤية، ويحدق بالرؤيا بين المعنى والمبنى، ويحقق بين الماضي والآني والآتي.

إن تجربتي في سلطنة عمان تؤكد لي أن الخليج ليس فقط آبار نفط، وأن تجليات الروح الإنسانية هي الأقوى أثرًا، والأبقى عمرًا، وأن صوت الحضارة في المنطقة أصدق إنباء وأنباء وأنه الشوق الممتد لهذا الحاضر المستمر في التأكيد على الذات، والمستمد من منظومة القيم والتحولات، وأن الجغرافيا تتوارى في مرجعيتها إلا قليلا، ساعة أن ترتحل في الجذور، فيتجلى التشكيل التاريخي الواحد، الذي يكشف عن التناغم في عبقرية المكان، على تجليات الآني وتحسبه لمتغيرات الآتي.

ولأن المقدمات السليمة تؤدي إلى نتائج سليمة، بلغة المنطق، فإن البداية التي كانت متجهة إلى العمق، قدمت عمان في صيغتها الجديدة إلى العالم، فتقدمت في صورة جديدة وجريئة، فلا هي بالتقليدية، ولا هي بالتي تخطف الأبصار فجأة ثم تنطفئ، فاستقبل العالم صورة هذا الإنسان كما ينبغي أن يكون الاستقبال لشخصية تستند إلى جدار حضاري لا ينقض، ولا ينبغي له، مؤصلا وجوده الجديد، ومواصلا تواجده في ساحة العمل الدولية، متوخيًا أثناء مسيرته، أن تكون برامج أعماله نابعة من صميم واقعه، ومنفتحة على حضارة هذا العالم الذي هو جزء منه لا يتجزأ.

وهذا البعد الحضاري والتنويري لم يجعل عمان تحبس ذاتها في غرفة القديم، وفي الوقت نفسه، لا تتأرجح في شارع العصر الحديث، إنما تقيم التوازنات في ممارساتها، وتلتزم التوازنات في مساراتها، وشهد العالم لسلطنة عمان بأنها عضو فعال في الأسرة الدولية، على مختلف الأصعدة، تأخذ وتعطي، وتتبادل الحوار المتحضر، تتحرك وتحرك، وتمارس دورها التاريخي في منطقة جغرافية ذات طبيعة خاصة، مقدر عليها الحركة الدائبة، ومطلوب منها اليقظة التي لا تعترف بالغفلة.

يكشف الخطاب العماني إلى أبعد مدى، معنى أن جلالة السلطان قابوس ملتزم أمام شعبه بالخوض في قضايا المجتمع ومشكلات الناس، وهذا الالتزام إنما يتم بطريقة رجل الفكر، الذي يتعرض لمشكلة ما على صورة نظرية، ثم يردفها بصورة تنفيذية، فمرة بالفكر المجرد، ومرة بالفكر المجرد والمنفذ معًا، ومن ثم يعد الخطاب - بحق - أرفع مستويات التعبير عن الرؤية العمانية، فيفيض بالكثير من التصورات الشاملة والمبادئ الكبرى التي يؤمن بها ويشكل منها مهادًا لأطروحاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وهي مبادئ تكشف عن جذور المواقف التي يتخذها، وتفسر الكثير من الحلول الواقعية للقضايا التي تفرزها المتغيرات المحلية والدولية.

تكونت منظومة الخطاب العماني ابتداءً من حقبة زمنية قلقة متوترة على جميع الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية، وهي حقبة السبعينيات، حيث بداية الفجر العماني الحديث في 23 يوليو 1970 مرورًا بعقد الثمانينيات وهو عقد تكوين الدولة وتشكيل مؤسساتها، وقد شهد هذا العقد أحداثًا مؤثرة وتطورات خطيرة كانت لها انعكاساتها على الاستقرار الدولي نتيجة لازدياد حدة التوترات والصراعات من جهة، وتصاعد نزعة العنف والإرهاب من جهة ثانية، ثم عقد التسعينيات الذي اتسم بالامتداد في المشروع العماني داخليًا وخارجيًا، وصولا إلى حقبة الألفية الثالثة.

وقد تخلقت رؤية هذا الخطاب للعالم من خلال إدراكه الشامل للواقع الموضوعي ككل متكامل، فهو يشكل خطابًا كليًا، وليس مجرد وحدات جزئية مشتتة، كمنظومة سياسية تتجلى في الأبنية الكلية لنصوصها، ورابطها هو الأنا والمواطن والشعب والوطن.. والمواطن يحتل أسمى مكانة في منظور السلطان قابوس، فهو الوسيلة والغاية وهو الهدف الذي يسعى اليه به، «لو أستطيع أن أكسي شعبي ذهبًا لكسوته، فهو يستحق، وما يهون حد يكدره» إن «حاكمًا» يقول مثل هذه الكلمات لهو إنسان يدثره الله برحمته، ويلقي عليه من محبته، ما يجعله رحيمًا بشعبه، محبًا له، رؤوفًا به، عزيزًا عليه ما لاقاه من عنت الجمود ردحًا من الزمن العصبي، ومن جبروت ركود أخرجه من العصر إلا قليلا.. وإن «شعبًا» يقول عنه زعيمه مثل هذه الكلمات المضفرة برحيق الإخلاص، لهو شعب ليس بمستغرب منه أن يفيض بكل هذا الولاء، ويجيش بكل هذا الانتماء، ويتمتع بكل هذا الوفاء، إزاء الحاكم الحريص عليه أكثر من نفسه، وهو صاحب النفس المطمئنة الموصولة بربها والمتصلة بشعبها.. وإن أرضًا أنجبت حاكمًا وزعميًا مثل السلطان قابوس بن سعيد، وأظهرت شعبًا ذا معدن أصيل مثل الشعب العماني الشقيق، لهي أرض تنبت طيبًا، بل لا تقبل أن تنبت إلا طيبًا.

بعيدا عن النفط وغيرة الثروات الطبيعية في باطن الأرض، استطاع السلطان قابوس أن يؤسس دولة بصيغة جديدة. وأن يعيد تشكيل الوعي العماني بأدوات معرفية جديدة، وأن يتخذ من الإنسان العماني سلاحا خلاقا وعنصرا فعالا ليشيد به نهضة ذات عنفوان مستمر، يقلع نحو المستقبل مستمسكا بثوابته العمانية والعربية والإسلامية إذ لا نمو بدون جذور، فقد وضع الخطاب الأطر الثابتة للصورة، وترك حرية الحركة للمتغيرات داخل هذه الأطر العامة، وبالتالي تتناسق مقولة «أن التنمية لا تقبل أن تنهض مجزأة» مع شواهد الواقع ومشاهده، وتصورات الفكر وتصديقات الواقع الذي ينبع منه ذلك الفكر، ومطابقة التصورات للتصديقات واحدة من البيانات الدالة على حيوية وتعادلية فكر السلطان قابوس.

استعان الخطاب العماني ببث غزير الإشعاع لقيمة المواطنة وإنسانية الإنسان والأرض التي هي ظل الإنسان على الزمان، وشواهد التاريخ ومشاهده، واستثمار حقائق الجغرافيا، والتدرج وحرق المراحل.. وكلها قواسم مشتركة في أنساق المشروع العماني الحديث الذي هو أقوى وأرفع أنواع الاستثمار..

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة