سأل أحد الصحفيين إمبراطور اليابان (أوكيهيتوا يوهارا) عن سبب تقدم اليابان في هذا الوقت القصير فأجاب: اتخذنا الكتاب صديقًا بدلا من السلاح.. وجعلنا العلم والأخلاق قوتنا.. وأعطينا المعلم راتب وزير وحصانة دبلوماسي، وجلالة إمبراطور.
يا إلهي ..! راتب وزير.. حصانة دبلوماسي.. وجلالة إمبراطور!!
أية هيبة تكسو المعلم فتتغشاه الإخلاص الذي نراه مثمرًا لديهم.. حتى غيروا المعنى الساذج للأمية فصارت تطلق على الذي لا يجيد التقنية الحديثة..!
أية هيئة حياتية يرفل فيها.. ليعطى ولابد أن يعطى حتى آخر نفس تعليمي منه.. جزاء وفاقًا..!
أى جلال يدثر هذا المعلم باليقين.. فلا يجعله يقينًا مراوغًا..!
وغصبًا عن أي مفكر وعن أي قلم لابد أن يمارس الإسقاط ، بالنظر إلى ما حواليه في المنطقة العربية عمومًا وأنظمتها التعليمية خاصة..
إنها ثلاثية التعليم.. والمعلم.. والأخلاق... «إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا.»
من وحي الجدل الدائر حول التعليم عندنا... أتحدث...
تبدو مشكلة التعليم مرضًا مزمنًا.. كل حكوماتنا المتعاقبة ووزراء التعليم الأفاضل تعاملوا ويتعاملون - والقادمون أيضًا سيتعاملون مع التعليم - على طريقة من يعالج السرطان بقرص أسبرين..!
مجرد مسكنات.. مجرد منومات.. ويبقى الحال على ما هو عليه.. والشواهد المتكاثرة تقول إنهم عاجزون.. والمشاهد الماثلة تؤكد أنهم فاشلون.. كلهم يهدم بعضه بعضًا، كل وزير يدمر ما فعله سابقه (تكوين بقى) ..!
من مآسينا التي تجثم على عقولنا وتغتال قلوبنا، وتعتقل نفوسنا.. أن ما من مسئول، في أية صورة من الصور، وبأي شكل من الأشكال، إلا ويمارس لعبة التدمير هذه، ينسف من قبله، ويقزم ما قبله، ويسفه اللحظة الماضية، على حساب اللحظة الراهنة، وينسى أو يتناسى، أن الكرسي دوار، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك، أو بالأحرى ما وصلت أنت إليها؛ بغض النظر قليلا عن الوسيلة خاصة الوسيلة التي تُـبرر بها الغاية، وهي أقبح ما سنه (ميكافيلي) في كتابه الداعي إلى السياسة الإجرامية (الأمير).
بصائر شتى.. ومصائر مؤلمة.. لا يستفيد منها أصحابها حتى بقدر جناح بعوضة، وكأن على قلوب أقفالها.. إلى متى نظل نتشدق بأننا نواكب العالم، وأننا في المقدمة.. وأننا.. وأننا.. وأننا.. حتى تضخمت ذاتنا بشكل مرعب.. ينعكس على حراكنا إن كنا نتحرك.. أين الخبراء..؟ أين المستشارون..؟ أين العباقرة..؟ أين الأساتذة..؟ أين الجهابذة..؟ أين المفكرون..؟ أين العمالقة..؟ أين المخططون..؟ أين الممنهجون..؟ ألف أين وأين..؟؟!
باختصار حالة التعليم عندنا.. هي إجابة تبحث عن سؤال، أكثر مما هي سؤال يبحث عن إجابة..!
ولعلكم تنظرون مثلي.. إذ أتابع بألم وبلا أمل أجواء المعركة الدائرة حول التعليم.. لم أعثر على جملة واحدة مفيدة.. من قبل الأطراف المتصارعة التي تشبه طواحين الهواء.. لا من وزير التربية والتعليم ولا من الأطراف الأخرى... تهديد بسجن أولياء الأمور المتناقشين.. يقابله وعيد وسب وشتم منهم للوزير والوزارة والمنظومة التعليمية إن كان لدينا منظومة أصلا..!
ولاحظوا أنهم يصبون جام اهتمامهم الوهمي على التعليم دون صائغ.. أفلا ينظرون حتى بطرف خفي إلى صانعه: المعلم، الذي ينافقونه ويرددون منذ مائة عام أو يزيد قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
قم للمعلم وفه التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
كلام مجرد حروف فقدت معانيها.. ومعان فقدت بريقها.. تصورات لا تقابلها تصديقات على أرض الواقع طوال عشرات العقود الخوالي وستظل مع الآتي.. وما بني على باطل لن يثمر إلا عبثا، فالمقدمات السليمة تؤدي إلى نتائج سليمة... وانظروا إلى ما قاله ( لي كوان- مؤسس سنغافورة): أنا لم أقم بمعجزة في سنغافورة، أنا فقط قمت بواجبي نحو وطني ، فخصصت موارد الدولة للتعليم، وغيرت مكانة المعلمين من طبقة بائسة إلى أرقى طبقة في سنغافورة، فالمعلم هو من صنع المعجزة، وهو من أنتج جيلا متواضعًا يحب العلم والأخلاق، بعد أن كنا شعبًا يبصق ويشتم بعضه في الشوارع.
وأستدعي في هذا السياق مقولة عميدنا العظيم طه حسين بصفته (وزير المعارف): (التعليم كالماء والهواء...) التي ضاعت أدراج الرياح.. إذ إن الماء صار ملوثا والهواء أكثر.. يا سيدي العميد!
دول وكيانات حديثة بدأت من تحت الصفر قفزت إلى صدارة الإنسانية.. لا فهلوة ولا فتونة.. إنما خطط وتخطيط.. وإرادة إنسانية وإدارة سياسية.. ولا شيء اسمه النيات الطيبة، فكم من الجرائم التي نعاني من معظمها ترتكب باسم النية... إستراتيجيتها مصدرها فكر على مشكلات وليس فكرًا على فكر - وطبقًا لتوصيف أستاذنا الفيلسوف زكي نجيب محمود - هم يبدأون بالمشكلة يبحثون لها عن فكرة، نحن نبدأ بالفكرة نبحث لها عن مشكلة.. الحرب تشتعل والعلماء يخترعون القنابل والعربي مشغول بسؤاله الأهم «هل الأصح في اللغة أن نقول قنبلة أم قنبرة؟! هم يصبون الطاقة العقلية على الأشياء ونحن نصب طاقتنا على الأقوال.. التعليم فعالية داخلية تنشط بها طبيعة المتعلم، وليس التعلم آذاناً تصغى إلى ملقن.
فإلى متى نظل كالمبصر الكسيح نرى الطريق ولا نستطيع السير فيه.. ونظل عارضي أزياء لا نحن ناسجوها ولا بائعوها.
عفوًا.. إن جلد الذات مرفوض، لكن نقد الذات مباح ومتاح بل هو قوة..!
هذا عن التعليم فماذا عن العلم ...؟
حدث ولا حرج، في ضوء ثلاث شموع علمية عالمية إنسانية، كل شمعة منها بقدر ما ينير ضوءها بقعة من الظلام بقدر ما يكشف مساحة الظلام الهائلة حولها...!
وهذه هذه الوظيفة الكونية للشمعة.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أما الشموع الثلاث فهم: د. فاروق الباز.. د. مجدي يعقوب.. د. أحمد زويل.. ومعهم نلتقي إن شاء الله تعالى