حين تقدم حكومة الدكتور مصطفى مدبولي أول برنامج عمل لها حاملًا عنوان "مصر تنطلق"، فإنها بهذا البرنامج قطعت على نفسها أمام الشعب وعدًا بانطلاقة جديدة، تنتشل البلاد من أزمة اقتصادية طاحنة دفع فاتورتها المواطن البسيط.. وأنها أيضًا قطعت على نفسها عهدًا أمام الشعب، أن تشهد البلاد نهضة تنموية تفتح أبواب الأمل أمام الشباب في إيجاد فرصة عمل شريفة؛ تعينه على متاعب الحياة.
البعض رأى في "مصر تنطلق" أنه حالم وشعاره يهدف إلى دغدغة مشاعر المواطنين الذين يكتوون يوميًا بنار الأسعار وأعباء الحياة التي صارت لا تحتمل؛ بل ذهب من هم أكثر تشاؤمًا إلى أن تحقيق انطلاقة اقتصادية تخلص البلاد من مشكلاتها يعد ضربًا من الخيال، وأن الحكومة لا تستطيع تحقيق هذه الانطلاقة..
في المقابل يرى البعض أن برنامج الحكومة يضع مصر على أعتاب مرحلة جديدة بعد أن قطعت شوطًا كبيرًا في إصلاح الخلل الهيكلي الذي ضرب الاقتصاد المصري على مدى عقود، وأن الأجواء أصبحت مهيأة لهذه الانطلاقة.
وما بين المتفائلين والمتحفظين تظل الحقيقة وتبقى الإرادة والتحدي، فالمؤكد أن إدراك التقدم ليس سهلًا والطريق إليه لن يكون مفروشًا بالورد.. ويقينًا أن هناك تحديات تتطلب عملًا مدروسًا وفعلًا غير تقليدي ينقل مصر إلى آفاق المستقبل.
بالتاريخ، فإن مصر مرت بظروف اقتصادية أكثر صعوبة وأشد وطأة واستطاعت أن تتجاوزها.. ونجحت في تخطي مخاطرها.. كما أن التاريخ أيضًا يقف شاهدًا على أن مصر الستينيات حققت معدلات نمو أضعاف دول جنوب شرق آسيا مثل سنغافورة وماليزيا، والجنيه المصري بلغ في قيمته 3 دولارات، وكان أيضًا يشترى 7 جرامات ذهب.
بالتاريخ أيضًا، فإن مصر سبقت اليابان في صناعة السيارات؛ بل كانت تجربتها في التصنيع مصدر إلهام للدول التي تبارت لإرسال وفودها للإطلاع على هذه التجربة ونقل محاسنها وأسرارها..
مصر إذن قادرة على أن تنطلق وتحقق ما ذهبت إليه حكومة مدبولي وتحويل الشعار إلى حقيقة؛ لكن إذا ما أخذت بالأسباب، وأحسنت إدارة الموارد ومواجهة التحديات..
فالبرنامج الحكومي الجديد لن يتحقق بحسن النوايا، ولن يؤتي ثماره بتسويقه على منصات ومنابر الإعلام، ولا بترويجه بين العامة ولا بتمريره بمجلس النواب..
ولا أبالغ إذا قلت إن هذا البرنامج يعد الأخطر والأهم، ويأتي في توقيت بالغ الحساسية، وإما أن يدفع بمصر إلى الأمام أو لا قدر الله يرجع بها إلى الخلف.. فلا وقت للتجريب ولا مجال للتأجيل.. القضايا واضحة.. والمشكلات جلية والتحديات معلنة..
ولا يختلف اثنان على أن الدواء المر الذي تجرعه الشعب على مدى سنوات الإصلاح الاقتصادي كان قاسيًا، وآن الأوان أن يجني المواطن ثمار صبره ونتائج تحمله...
مكونات برنامج الحكومة، برغم أنها تحمل في مجملها رؤية جيدة للتعامل مع القضايا الوطنية المختلفة، فإنها جاءت منقوصة في بعض تفاصيلها، خصوصًا ما يتعلق ببعض الملفات المهمة مثل قضية الديون التي اعتبرها من أخطر الملفات التي يجب أن تكون لدى الحكومة رؤية واضحة للتعامل معها خلال السنوات المقبلة؛ لأن هذه القضية يتوقف عليها نجاح الحكومة في بقية مكونات البرنامج، وربما الأرقام الواردة في موازنة الدولة التي بدأ العمل بها مع بداية العام المالي الجديد تقدم من الأدلة والبراهين ما يؤكد خطورة ارتفاع الديون على مستقبل التنمية، إذ إن فوائد الدين فقط تبلغ نحو 541 مليار جنيه وإن أقساط الدين والفوائد تتجاوز 800 مليار جنيه؛ بل إن هذا المبلغ يمثل 77% من حجم المصروفات.. كما خلا البرنامج من وجود توقيتات زمنية أو آليات لتنفيذ ما جاء به أو مصادر تمويله..
في المقابل هناك مكونات مكافحة الفقر في البرنامج وهي رؤية تستحق التوقف أمامها إذ حددت بشكل واضح خارطة طريق للتعامل مع الفقر؛ سواء من خلال مساعدة الفقراء القادرين على العمل أو إعالة غير القادرين، أو من خلال التوسع في شبكة الضمان الاجتماعي أو نشر المشروعات الصغيرة .
وفى تقديري أن مجلس النواب الذي يتأهب لمناقشة برنامج الحكومة تقع عليه - بحكم الدستور - مسئولية وطنية بإيجاد إجابات واضحة من الحكومة على العديد من الأسئلة التي وردت بالبرنامج، وأن يكون منح الثقة للحكومة مبني على تعهدات والتزامات واضحة ومحددة تقدم ضمانات لنواب الشعب على تنفيذ ما جاء في البرنامج بما يحقق صالح هذا الوطن.
ولعل القراءة الأولى للبرنامج داخل لجان مجلس النواب وما تمخض عنها من ملاحظات جادة تبعث على التفاؤل وتؤكد وجود نية للوصول إلى برنامج عمل جاد للحكومة يدخل بمصر إلى مرحلة جديدة، تقدم حلولًا واقعية للمشكلات الجماهيرية، وتفتح الطريق أمام نهضة تنموية تضع مصر في موقعها الذي يليق بها بين الأمم .
إن إرادة التنفيذ هي وحدها القادرة على تحويل شعار "مصر تنطلق" إلى حقيقة، وأظن أن كل الظروف مهيأة أمام الحكومة لرد الجميل إلى شعب يتوق إلى الاستقرار ويتطلع إلى العيش الكريم.. بعد أن تحمل - عن طيب خاطر - أعباء إصلاح اقتصادي قاس.
كما أن التاريخ الذي يسجل منجزات المصريين ويوثق ما قام به الآباء والأجداد هو التاريخ الذي لن يرحم الأبناء والأحفاد إذا فشلوا في حمل الأمانة.
حفظ الله مصر