Close ad

"بوابة الأهرام" تنشر فصلا من رواية "رحلة الخروج" لفيرجينيا وولف.. تصدر قريبا (2-2)

16-5-2018 | 13:00
بوابة الأهرام تنشر فصلا من رواية رحلة الخروج لفيرجينيا وولف تصدر قريبا فيرجينيا وولف

تنشر "بوابة الأهرام" فصلًا من رواية "رحلة الخروج" للكاتبة البريطانية "فيرجينيا وولف" (1882 - 1941)، الحائزة على جائزة أخبار الأدب لعام 2018 في مجال الترجمة.

موضوعات مقترحة
تصدر ترجمتها العربية قريبًا عن سلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامة للكتاب، ترجمة: راقية جلال الدويك.

(2/2)

بينما تغطيان رأسيهما، سارت السيدتان على ظهر القارب. كانتا تتحركان بثبات لأسفل نحو النهر، وكانت لندن عبارة عن سرب من الأضواء تتساقط فوقها قبة باهتة الصفار. كانت هناك أضواء المسارح العظيمة، وأضواء الشوارع الطويلة، أضواء تعني وجود ميادين ضخمة من الراحة البيتوتية، أضواء ترتفع عاليا في الهواء. لا ظلام يمكنه الإطباق على هذه الأضواء، كما لم يستطع أي ظلام أن يطبق عليها لمئات سنوات مضت. بدا من المروع حقا أن المدينة مجبرة على أن تتألق دوما في ذات بقعة الضوء؛ مروع على الأقل لمن يذهبون في رحلات عبر البحر، ويرنون إليها فكأنها أكمة مقيدة، محترقة دوما، مخدوشة دوما. من على ظهر السفينة بدت المدينة العظيمة كمجسم مكتنز جاثم، مأساة جالسة لا تتزحزح.

مائلة على السكة الحديدية، جنبا إلى جنب، قالت هيلين: "ألن تصابي بالبرد هكذا؟" أجابت ريتشيل: "لا ... يا لهذا الجمال!" أضافتها بعد دقيقة. كان هناك القليل جدا الذي يمكن رؤيته- عدة صواري قليلة، ظل لأرض هنا، خط من النوافذ اللامعة هناك. وقد حاولتا أن تجعلا رأسيهما ضد اتجاه الرياح.

قالت ريتشيل لاهثة: "إنها تهُب.. إنها تهُب"، اصطدمت الكلمات بحلقها، وبينما هيلين تحاول جاهدة الصمود بجوارها، هزمتها الحركة فجأة، ودفعتها للأمام وقد ضمت أطراف تنورتها حول ركبتيها، وذراعيها حول شعرها. لكن خمر الحركة تداعى عنها ببطء، وغدت الرياح جافة باردة. نظرتا عبر شق في الستار ورأتا تلك السجائر الطويلة تُدخن في حجرة الطعام؛ رأتا السيد أمبروز يدفع نفسه بعنف إلى ظهر مقعده، بينما السيد بيبر تتجعد وجنتاه، ثم يختفيان خلف خشب النافذة. وصلهما شبح هدير الضحكات، ثم ضاع فجأة عبر الرياح. في الحجرة الصفراء الجافة كان من الواضح أن السيد بيبر والسيد أمبروز في حالة جلبة تامة؛ كانا في كامبريدج، وكان ذلك تقريبا في حوالي العام 1875.

قالت هيلين: "إنهم أصدقاء قدامى." مبتسمة للمشهد. "الآن، هل هناك حجرة لنا لنجلس فيها؟"

فتحت ريتشل بابا.

"إنها تبدو كرصيف أكثر من كونها حجرة." الحقيقة لم تكن بها أي من سمات حجرة ثابتة موصدة على شط. كانت هناك طاولة مزروعة في وسطها، وبعض المقاعد راسية على الحوائط. بسعادة، أضاءت الشموس المدارية السجاجيد بلون أخضر ذي زرقة خافتة، والمرآة بإطارها ذي الأصداف، والتي كانت عملا من نتاج حب خادم السفينة، عندما اشتبك الوقت بعمق في البحار الجنوبية، كانت طريفة وليست سيئة. وقد زينت الصدفات الملتوية حمراء الشفاه التي تشبه قرون "يونيكورن " رف الموقد، الذي كان مكسوا بكرة من المخمل القرمزي، يتدلى منها عدد معين من الكرات. وهناك نافذتان مفتوحتان على سطح المركب، والضوء يمر عبرهما بينما السفينة المشوية على شطوط الأمازون قد حولت البصمات على الحائط المقابل إلى لون أصفر كالح، مما جعل من النادر تمييز "الكوليسوم" عن الملكة أليكساندرا وهي تلعب مع كلابها الخاصة. وزوج من المقاعد مجعدة الأذرع بجوار الموقد تدعو الفرد إلى تدفئة يديه بمدفأة تعج بالأخشاب المذهبة؛ لمبة عظيمة تتمايل فوق الطاولة – من نوع اللمبات التي تصنع ضوء الحضارة عبر الحقول المظلمة لشخص يسير في المدينة.

استهلت ريتشيل قائلة: "من الغريب أن الجميع أصدقاء قدامى للسيد بيبر." حيث كان الموقف عسيرا، والحجرة باردة، وهيلين صامتة بشكل مثير للفضول.

قالت الخالة: "أظن أنك أخذت الأمر باعتباره مفروغا منه."

"يبدو كذلك بالفعل." قالتها ريتشيل وهي تضيء سمكة محنطة في حوض وتشغلها.

علقت هيلين قائلة: "توقعتُ أن تكوني حادة أنت أيضا."

حاولت ريتشيل فورا تعديل ما قالته ضد معتقداتها.

"لست أعرفه حقا،" قالتها، وهي تجد ملاذها في الحقائق، مؤمنة أن كبار السن يفضلونها حقا أكثر من المشاعر. لقد قدمت ما عرفته عن ويليام بيبر. قالت لهيلين أنه دائما ما ينادي عليهم في أيام الآحاد التي يكون بالبيت أثناءها؛ إذ كان يعرف الكثير عن أمور عظيمة عدة- الرياضيات، والتاريخ، والإغريق، وعلم الحيوان، والاقتصاد، والأساطير الأيسلندية. لقد حول الشعر الفارسي إلى نثر إنجليزي، والنثر الإنجليزي إلى شعر إغريقي عميق؛ كان رئيسا لصك العملات؛ و – بقي شيء آخر-أوه نعم، لقد ظنت أن ذلك كان بمثابة تجارة لنقل الفكر.

كان هنا إما من أجل إخراج الأشياء من البحر، وإما للكتابة عن مقرر الأوديسة، حيث الإغريق هو هوايته في النهاية.

قالت: "لقد حصلت على كل كتيباته. كتيبات صغيرة، كتب صفراء صغيرة." لم يبد أنها قد قرأتها.

"ألم يقع في الحب أبدا؟" سألت هيلين وهي تتخير مقعدا.

كان ذلك سؤالا في صلب الأمر على نحو غير متوقع

"إن قلبه قطعة من جلد حذاء قديم." أعلنتها ريشيل وهي تسقط السمكة. لكن عند سؤالها كانت مضطرة للقول إنها لم تسأله عن ذلك قط.

قالت هيلين: "سوف أسأله."

أكملت تقول: "آخر مرة رأيتك، كنت تشترين بيانو. هل تذكرين – البيانو، الحجرة في طرف المنزل، والنباتات الضخمة ذات الأشواك؟"

"نعم، وقالت لي عمتاي أن البيانو سيأتي للدور الأرضي،" وتساءلت قائلة "لكن في مثل عمرهما لن يمانع المرء في أن يقتل في الليل؟"

قالت هيلين: "سمعت من العمة بيسي منذ وقت غير بعيد أنها تخشى أن تضري بذراعيك إن ظللت مصرة على الإفراط في التمرين."

"عضلات الساعد – وبعدها لن أتزوج؟"

أجابت السيدة أمبرز: "إنها لم تقل ذلك بالضبط."

قالت ريتشيل بتنهيدة :"أوه، لا—بالطبع لن تفعل ذلك."

نظرت إليها هيلين. كان وجهها ضعيفا غير حاسم، حمته العينان الواسعتان المتسائلتان من أن يفقد معناه؛ وصار جمالها ضائعا، وهي تحتمي داخل اللون الباهت والإطار المحدد. الأكثر من ذلك أن التردد في الحديث، أو بالأحرى الميل لاستخدام الكلمات الخطأ جعلها تبدو عاجزة بدرجة كبيرة بالنسبة لعمرها. السيدة أمبروز، التي كانت تتحدث عشوائيا بكثرة، انتبهت الآن لكونها لم تتطلع إطلاقا للتعامل الحميمي منذ ثلاثة أسابيع أو أربعة على متن السفينة التي كانت مهددة. النساء في مثل عمرها عادة ما يصبنها بالضجر، وقد افترضت أن الشابات سيكن أسوأ. حملقت في ريتشيل ثانية. نعم! كم كان جليا أنها ستكون متذبذبة وانفعالية، وأنك إن قلت لها شيئا فلن يبقى له من أثر عليها إلا كضربة عصا على الماء. لم يكن هناك ما يمكن الإمساك به لدى الفتيات- لا شيء قوي، أو دائم، أو مُرضٍ. هل قال ويلوبي ثلاثة أسابيع أم أربعة؟ حاولت أن تتذكر.

عند هذه النقطة، انفتح باب الحجرة ودخل رجل ضخم الجثة، تقدم وصافح هيلين بمودة خاصة، هو ويلوبي بذاته، والد ريتشيل، وحمو هيلين. رغم كل هذا القدر الهائل من اللحم الذي احتاجه كي يصبح على هذه الهيئة، حيث يبدو ضخما للغاية، فإنه لم يكن بدينا؛ فوجهه الضخم أيضا يبدو بدقة الملامح وتوهج الوجنتين، مناسبا لتحمل تقلبات الجو أكثر من التعبير عن المشاعر والانفعالات أو الاستجابة لها عند الآخرين.

قال: "إنها لسعادة كبرى مجيئك لنا نحن الاثنين."

غمغمت ريتشيل مطيعة للمحة والدها.

"سنفعل كل ما بوسعنا لتحقيق راحتك." وبالنسبة لرايدلي. فإنه لشرف لنا أن نكون مسئولين عنه. سيكون لدى بيبر شخص يعارضه- الأمر الذي لا أجرؤ على فعله. ألستِ ترين أن هذه الطفلة قد كبرت؟ صارت شابة، أليس كذلك؟"

بينما لا يزال يمسك بيد هيلين أرخى ذراعه على كتف ريتشيل، الأمر الذي جعلهما متقاربتين بدرجة غير مريحة، لكن هيلين استحت أن تنظر.

سألها: "أتعتقدين أنها صنعت لنا سمعة حسنة؟"

قالت هيلين: "أوه، نعم."

"لأننا نتوقع أمورا عظيمة منها" قالها وهو يعتصر ذراع ابنته ويرخيها. أكمل يقول: "لكن الآن، بالنسبة لك،" جلسا جنبا إلى جنب على الأريكة الصغيرة. "هل تركت الأطفال بحال جيدة؟ أظن أنهم سيكونون جاهزين للمدرسة. هل يعتنون بك أو بأمبروز؟ إن لديهم عقولا جيدة فوق أكتافهم، هل سأكون على صلة بهم؟"

في هذه اللحظة بالذات أشرقت هيلين أكثر من أي وقت مضى، وأوضحت أن ابنها كان في السادسة وابنتها في العاشرة. الجميع قالوا إن ابنها يشبهها وابنتها تشبه رايدلي. بالنسبة لعقليهما، فهما مزعجان، لكنها رغم ذلك، غامرت متواضعة بتلاوة قصة صغيرة عن ابنها – كيف أنه حين ترك وحيدا لدقيقة أخذ قطعة من الزبد بين أصابعه، وركض بها عبر الحجرة، ووضعها على النار-من أجل المتعة لا أكثر، وهو شعور استطاعت تفهمه.

"وكان عليك أن توضحي لوغدك الصغير أن هذه الحيل لن تفلح؟ أليس كذلك؟"

"لطفل في السادسة؟ لا أظن أن الأمر يعنيهم."

"أنا أب ذو أسلوب عتيق."

"هراء، يا ويلوبي، ريتشيل تعرف أفضل."

بقدر ما أحب ويلوبي دون شك أن تطريه ابنته فإنها لم تفعل؛ كانت عيناها كالماء لا تقبلان أن تعكسا أي شيء، مازالت أصابعها تلعب بالسمكة الأحفورية، وعقلها غائب. ذهب الأشخاص الأكبر سنا للحديث حول ترتيبات يمكن فعلها بهدف تحقيق الراحة لرايدلي – منضدة وضعت بحيث لا يستطيع رؤية البحر، بعيدا عن المراجل، وفي الوقت ذاته محمية من رؤية المارة. لولا أنه قد اعتبر ذلك إجازة، حيث كانت جميع كتبه معبأة، فإنه لم يكن ليحصل على أية إجازة بأية حال؛ بالخارج في سانتا مارينا عرفت هيلين بخبرتها أنه سيعمل طوال اليوم؛ حين قالت إن صناديقه كانت معبأة بالكتب.

"دعي ذلك لي – دعي ذلك لي!" قالها ويلوبي، وكان من الواضح أنه ينوي فعل أكثر مما طلبت منه. لكن رايدلي والسيد بيبر كانا يُسمَعان وهما يتحدثان بتردد على الباب.

قال رايدلي "كيف حالك يا فينراس؟" مادا يدا مترهلة وهو يدخل، رغم ذلك فقد كان الاجتماع كئيبا لكليهما، لكن الأمر برمته كان أسوأ بالنسبة له.

قابل ويلوبي حماسته ولطفه باحترام،. وحتى هذه اللحظة لم يكن هناك أي شيء قد قيل.

علقت هيلين قائلة: "لقد نظرنا بالداخل ووجدناك تضحك."

"لقد قال لي السيد بيبر للتو قصة رائعة جدا." قالها زوجها بسخط "يا للهول، إن أيا من القصص لم يكن جيدا."

تساءل السيد فينراس "ألا زلت حكَما متشددا؟"

قال رايدلي: "لقد أصبناكِ بالملل فغادرت." موجها حديثه مباشرة إلى زوجته.

لما كان ذلك صحيحا تماما، فإن هيلين لم تحاول إنكاره، ولسوء الحظ جاءت ملاحظتها التالية: "لكن ألم يتحسن حالهم بعد ذهابنا؟" متزامنة مع إجابة زوجها وهو يدلي كتفيه: "بل لعلهم قد ساء حالهم."

كان الموقف الآن غير مريح بالمرة للجميع، وهو ما أثبتته الفترة الطويلة التي انقضت في هدوء وصمت. في الحقيقة فإن السيد بيبر قد أحدث تحولا نوعيا من خلال قفزه على كرسيه وقدماه متشابكتين تحته، بحركة عانس تترصد فأرا، والرياح تصطدم بكعبيه. وهو معلق هناك، يمص سجائره، وذراعاه تحيطان بركبتيه، بدا كصورة لتمثال بوذا، ومن علوه هذا بدأ يلقي خطابا، موجها للا أحد، حيث لم يطلبه أحد، فوق عمق المحيط غير المحدد. لقد وجد نفسه مفاجأ بمعرفة أنه برغم امتلاك السيد فينراس لعشر سفن تتحرك بانتظام بين لندن وبيونيس آيريس، فإن أحدا منهم لم يحاول اختبار الوحوش البيضاء العظيمة في المياه المنخفضة.

ضحك ويلوبي قائلا: "لا، لا، وحوش الأرض كثر جدا عليَّ!"

وسمعت ريتشيل تتنهد قائلة: "أيتها الماعز الصغيرة البائسة!"

"لو لم يكن من ماعز لما كان لدينا موسيقى عزيزتي؛ الموسيقى تعتمد على الماعز،" قالها والدها بمزيد من الوضوح، وذهب السيد بيبر يصف الوحوش البيضاء الصلعاء العمياء التي ترقد متلوية على قمم الرمال في قاع البحر، والتي تنفجر إذا حركتها إلى السطح، وتبعثر الأحشاء في الرياح عند انفلاتها من الضغط، ومع هذا القدر من استعراض المعرفة بشكل تفصيلي هائل، شعر رايدلي بالتقزز، ورجاه أن يصمت.

من خلال كل هذا توصلت هيلين لاستنتاجاتها الخاصة، والتي كانت سوداوية بما يكفي. بيبر كان مصدر إزعاج؛ ريتشيل كانت فتاة غير محبوبة، ذات خصوبة هائلة بلا شك، أول ما تراه منها هو: "أترى، أنا لا أنصاع لوالدي." ويلوبي كالعادة أحب عمله وشيد امبراطوريته وبين كل هذا فإن كل ما يمكنها أن تشعر به هو الملل الشديد. على أية حال فقد نشأت على كونها امرأة فاعلة، وقالت ذلك لنفسها وهي تخلد للنوم. على الباب حملقت عائدة بشكل غريزي في ريتشيل متوقعة أنه لكونهما اثنان من نفس الجنس فسيغادران الحجرة سويا. نهضت ريتشيل ونظرت بغموض لوجه هيلين وعلقت على تلعثمها الخفيف قائلة: "أنا ذاهبة لأ أ أنتصر على الرياح."

تأكدت أسوأ شكوك السيدة أمبروز؛ نزلت الممر تترنح من جانب لجانب وتضرب الحائط الآن بذراعها الأيمن، الآن بالأيسر، وفي كل انعطافة تهتف بقوة "اللعنة!"


..

..
كلمات البحث
اقرأ ايضا: