في روايته الأخيرة "جمهورية كأن" الصادرة عن إحدى دور النشر اللبنانية، كتب طبيب الأسنان الشهير علاء الأسواني في الغلاف الخلفي للرواية: "قد يكون لها الوقع الكابوسيّ نفسه الذي أحدثته رواية أورويل 1984"، في حالة تعد الأولى من نوعها في تاريخ الأدب أن يحدد الكاتب بنفسه الإطار النقدي الذي يريد من النقاد قبل القراء أن يناقشوا نصه الضعيف عبره.
موضوعات مقترحة
وكأن هنالك جهة ما أصدرت تعليمات لعدد من الأقلام بالحديث الدائم عن جورج أورويل ورواية 1984 عقب ثورة 30 يونيو 2013، وبكل أسف أغلب من يتحدث في هذا المضمار لا يعرف أن أورويل كتب تلك الرواية ورواية "مزرعة الحيوانات" في إطار نقده لنموذج اليسار السوفيتي والإمبراطورية الروسية السوفيتية؛ وذلك خدمة للمعسكر الغربي الإمبريالي الذي قدم له أورويل مصطلح الحرب الباردة من بنات أفكاره، ولم يكتف بذلك فحسب؛ ولكن تعاون مع الأجهزة الأمنية البريطانية في سنوات حكم حزب العمال الاشتراكي وحكومة كليمنت أتلي نهاية الأربعينيات، وقدم قوائم بأسماء اليساريين المتعاطفين مع الاتحاد السوفيتي مع توصية تم تنفيذها باستبعادهم من العمل الحكومي
.
بالطبع صفحة تعاون أورويل الوطني مع دولته في زمن الحرب الباردة غائبة عمن يحاول توظيف أورويل في معسكر مضاد للدولة المصرية، أو خلق أورويل مصري من أعمال أدبية تعتبر إشهار إفلاس أدبي لكتابها
.
وعلاء الأسواني بدأ رحلة الإفلاس الأدبي مبكرًا، بل بدأ مفلسًا؛ ولكن للشهرة عوامل أخرى، خاصة أن نقاد الأسواني انجرفوا للفخ الذي أعده لهم، ألا وهو قياس أعماله الأدبية بمنظور أخلاقي؛ برغم أن هنالك روايات مغرقة في الجنس، ولكن تعتبر من أهم أعمال الحركة الأدبية العالمية، أو من منظور سياسي؛ برغم أنه هنالك روايات مغرقة في الآراء السياسية، ومع ذلك تعتبر من أهم الروايات الأدبية العالمية، أعد الأسواني هذا الفخ لمنتقديه؛ حتى يكسب عبرهم شهرة وصيتًا، بينما الأصل هو القراءة الأدبية الخالصة لأعماله، لنكتشف مدى ضعف أدوات الكاتب أدبيًا، ومدى استغلاله لآرائه السياسية في الترويج للقب الأديب العالمي دون أن يكون لهذه الآراء وتلك الألقاب وزن حقيقًي في عالم الأدب
.
أتت رواية طبيب الأسنان الشهير الأولى بعنوان "عمارة يعقوبيان" عام 2006، وهي رواية ديستوبية مبهرة لمن لا يعرف مجتمع وسط البلد، ولكن من عاش وعمل في شوارع تلك المنطقة الحيوية، يدرك بنسبة 100% أنه لا يوجد كلمة واحدة في الرواية من بنات أفكار الطبيب الشهير، وأنه نقل وقائع حياتية حدثت بالفعل في شوارع وعمارات وسط البلد ووضعها في عمارة واحدة فحسب
.
ترجمت الرواية ووقف الأوروبيون في طوابير لشرائها وتوقيعها من الكاتب المصري، وبلا شك كانت لحظة مهمة للأدب المصري، ولكن الأيام أثبتت أن الكاتب الأصلي كان "عمارة يعقوبيان"، وليس علاء الأسواني، وأن الأوروبيين ذهبوا لترجمة وشراء وتوقيع نص لا يقص رواية مصرية؛ بل مرويات إنسانية ربما كان من اللائق أن توضع في كتاب وثائقي عن وسط البلد في الأطر التي صاغها الراحل العظيم "مكاوي سعيد" في كتبه عن وسط البلد؛ بدلًا من صناعة نص أدبي مقتبس 100% من شخصيات نعرف أغلب أسمائها الحقيقية، وأن يعيش ويعمل بعضها حتى اليوم
.
كانت معضلة طبيب الأسنان أن الشهرة العالمية سوف تنضب سريعًا ما لم يقدم جديدًا، مع إفلاس أدبي لكاتب شيد عمارته الأولى بصياغة القصص التي عرفها جراء ارتياده مقاهي وسط البلد، وبدأت رحلة الهروب إلى الأمام للأسواني، وأتى نص شيكاجو مع تكثيف شديد من الأسواني لفكرة "ماذا يريد المترجم أن يرى في المصريين/العرب/الشرقيين؛ حتى يصبح النص قابلًا للترجمة
".
برغم الضجيج والاحتفاء من قبل "الشلة الأدبية"، إلى جانب فيالق من المعارضة وجدت في نصوص الأسواني فرصة لترويج ديباجات سياسية، ثبت بعد 25 يناير 2011 زيف أغلبها، بالإضافة إلى أخطاء نظام مبارك في تسليم الوسط الثقافي والصحفي والإعلامي لتنظيم الإخوان وفيالق اليسار المتعاطفين مع الأسواني، كانت ظاهرة الأديب العالمي تصل الذروة في القاهرة؛ بينما في الغرب انطفأت عقب ترجمة شيكاجو واكتشاف المترجم الغربي إفلاس طبيب الأسنان ونضوب أدواته
.
ولكن من السهل للغاية وبكل أسف، وحتى يومنا هذا أن يروج أي كاتب أنه ترشح عن أكاديمية إسكندنافية ما أو جمعية من دول البلطيق لجائزة نوبل للآداب، أو أن يكون هنالك جهة دولية تريد ترويج أفكار سياسية للكاتب عبر تكريمه أدبيًا عن نص هزلي هزيل، هكذا سن الأسواني قاعدة مهمة في عالم النشطاء الموالين للغرب، يمكنك أن تكتب أدبًا فاشلًا وهزيلًا، ولكن مع صوتك العالي ضد حكومتك سوف تحصل على تكريم أدبي قبل سياسي على الهزليات الأدبية التي تحاول عبثًا أن تكتبها
.
عقب شيكاجو أتت مرحلة 25 يناير والربيع العربي، علاء الأسواني المتشدد اليساري الناصري يرى في مقالاته أن الديمقراطية هي الحل، برغم أن الأيدولوجيا الناصرية منزوعة الديمقراطية، ولكن عزاء الأسواني أنه لم يكن موجودًا في زمن الزعيم الخالد حتى يخبره بنفسه أن الديمقراطية هي الحل، ولكن الأسواني كان حاضرًا وبشدة وهو يضع يده في يد تنظيم الإخوان أعداء عبدالناصر والتجربة الناصرية، ويبارك فوز أول جاسوس مدني منتخب برئاسة مصر في نكسة يونيو 2012؛ حيث يمكن للناصرية والأفكار اليسارية أن تأخذ إجازة في ظل أن المجتمعات الدولية التي تمنح الجوائز والتراجم تحتفي بصعود الإرهاب لسدة الحكم في مصر؛ فلمَ لا نشارك ونحفظ حقوقنا في ترجمة الرواية الجديدة؟
.
يحاول الأسواني دائمًا الظهور بمظهر المنظر السياسي وصاحب الأيديولوجيا، وأنه مع التغيير المطلق والداعي العتيد للثورة والديمقراطية، ولعل السؤال الحقيقي هو كيف لشخص قرأ كلمة واحدة - كما يدعي – في عالم السياسة أن ينتخب قوة إسلامية محافظة من أجل التغيير؟ أم أن الأمر برمته عباءات وأقنعة نخبوية لتمرير هدف إستراتيجي للغرب الذي أصر على هذا الهدف ليس في مصر بالسياسة فحسب، ولكن بالسلاح في سوريا واليمن وليبيا حتى اليوم
.
بعد أن أصبح الناصري الذي بارك صعود الإخوان ورأى في انتصار الإرهاب على وطنه انتصارًا ثوريًا، وهو الناصري الذي يرى أن جمال عبدالناصر لا يعبر عن حقيقة الأفكار الناصرية، وبعد أن ابتكر ناصرية أخرى في خياله في ثوب ديمقراطي غربي يأنف منه عبدالناصر الأصلي بعيدًا عن نسخة الأسواني النيوليبرالية، وبعد أن سلم ما يراه ثورة يناير ورغبة الشعب في التغيير إلى قوى دينية محافظة غير قابلة لتغيير نفسها حتى تغير المجتمع، والأسواني عرف ذلك جيدًا
.
وبعد أن قام المفكر الاشتراكي بوضع يده في يد نظام الإخوان الذي يعبر عن الإمبريالية الغربية والاستعمار الغربي الجديد ومشروعات الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الجديد، ضاربًا بعرض الحائط كل ديباجات الصمود والتحدي الاشتراكي في وجه مشروعات أمريكا الاستعمارية للمنطقة، دقت ساعة الرواية الثالثة بعنوان نادي السيارات
.
في الواقع إن ضعف ورداءة النص كان أكبر من أي محاولة للشلة وطابور مطبلاتية الأديب العالمي في تبرير هزلياته، وإذا كان الأسواني قد راهن يومًا على صناديق الإيرادات وعداد المبيعات، فإنه ومن قبل نادي السيارات كان الأديب أحمد مراد، والكاتب محمد صادق، ود. يوسف زيدان قد سبقوه وهدموا معبدالأعلى مبيعًا، بل وذهبت كتبهم لأيدي المترجمين خارج البلاد، بالإضافة إلى روايات الأديب الراحل أحمد خالد توفيق، وقد اكتشف أدباء مصر قبل القراء طرقًا أكثر نظافة واحترامًا للنفس والذات في جلب الترجمة بعيدًا عن الإستربتيز السياسي وخيانة عبدالناصر والاشتراكية، والبحث عما يريد الغرب أن يراه في المصريين والكتابة عنه وأسلوب "ترزجية الروايات والقصص" الذي حدث في عمارته الأولى
.
هكذا سقطت "شيكاجو" دوليًا، ولكن "نادي السيارات" سقطت محليًا قبل أن تسقط دوليًا، وضرب أصحاب المكتبات أيديهم كفًا بكف؛ على سوء مبيعاته ونزيف شعبيته، بعد أن سقط القناع، فمن يظن أن استثمار جهل الناس، والبحث عن نصوص تثير الأطر الأخلاقية والسياسية للناس على أمل أن يصب ذلك في بوتقة أدبية، تلك الخلطة السرية للأسواني و"الكومبو" الذي ظن أنه لن ينضب، قد استهلك بالفعل كما لو كان باقة اتصالات رخيصة، وقد اكتشفه القراء قبل الوسط الثقافي، حينما رأوا الناصري الاشتراكي يهرول لمصافحة رجالات تنظيم الإخوان
.
حينما رأوا المفكر الاشتراكي وهو يكتب ضد بلاده أسبوعيًا مقالًا ثابتًا من أجل حفنة دولارات في موقع ألماني يدعي أنه وكالة أنباء عالمية؛ بينما يخصص ثلثي مساحته للهجوم على مصر واستئجار خدمات أشباه صحفيين وإعلاميين لفظهم الرأي العام قبل أي طرف آخر مثل يسري فودة وغيره
.
كان يمكن للأسواني عقب فشل ناديه في اعتلاء قمة الدوري الأدبي وكأس المبيعات أن يراجع نفسه بعد أن سقط إلى دوري الدرجة الثالثة، ولكن لأن الأسواني هو المعبر الأول عن انفصال شباب يناير عن الواقع، ظن أن محاولة تقليد أو صناعة نموذج مصري من جورج أورويل ووضع اسمه على منشوره الأخير سوف يجلب الصيت المحلي والدولي، وهكذا اعتكف بضع سنوات ليكتب روايته الجديدة "جمهورية كأن"
.
إن المشكلة الأصلية في هذا النص ليس في الجنس الفج، أو الآراء السياسية، ففي عالم الرواية كل شيء مباح، ولكن المشكلة هو ذلك الإفلاس الأدبي، ذلك الكاتب الذي ليس لديه أدوات أو فكر من الأساس، وخدمه يومًا ما تعطش البعض للقراءة عن وسط البلد المصرية، أو تعطش بعض الأجيال الجديدة لمعرفة خبايا مجتمع وسط البلد، أو انخدعوا في عباءة عبدالناصر التي تدثر بها لفترة، هذا الإفلاس الأدبي هو أزمة نص جمهوريته الأخيرة على وجه التحديد
.
لذا لا عجب أن تنهال عليه الانتقادات الأدبية قبل السياسية أو الأخلاقية من القاعدة الجماهيرية للأسواني ذاته، هؤلاء الذين انخدعوا فيه منذ نصه الأول المهلهل نيران صديقة، هم اليوم من يعرفون طبيب الأسنان معنى النيران الصديقة، التي ظنت - عقب نادي السيارات بل وبعد "شيكاجو" - أن هنالك أمل حقيقي في رؤية تجربة أدبية ثرية، وكانت النتيجة حطام جمهورية أدبية، وإفلاسًا على طول الخط يطل عليه بين السطور وعبر كل كلمة كان يمكن كتابتها أدبيًا بشكل أفضل من كل ما ذهب إليه الأسواني
.
لسنا في تلك السطور نناقش أفكار الأسواني السياسية الشخصية أو عبر مقالاته، أو ما يعبر عنه عبر رواياته، برغم حدة تناقضها وكشف عريها طيلة سنوات ما بعد 25 يناير، ولكننا بصدد مناقشة الأسواني في الإطار الذي يستحقه حقًا، هل الأسواني كان أديبًا حقيقيًا في يوم من الأيام؟ هل كتب رواية في يوم من الأيام؟
.
الإجابة بكل بساطة هي لا، لم يكن الأسواني أديبًا أو كاتبًا في يوم من الأيام، هو ترزجي رواية، صاغ قصص "مقاهي وسط البلد" في رواية "عمارة يعقوبيان"، ولهث خلف الجهات المانحة والمترجمة؛ لمعرفة ماذا يريدون وقدم لهم ذلك في شيكاجو، ولكن الأسواني دون رتوش كان واضحًا في "نادي السيارات"، وكانت رقصته الأخيرة في جمهورية كأن هي أصله وحقيقته الأدبية التي يجب أن نعترف بها بعيدًا عن حقيقة أن كل اختياراته السياسية كانت فاشلة وساقطة ومتناقضة، وتتعارض مع ناصريته واشتراكيته ولا تخدم إلا الإرهاب والتطرف والمشروع الأمريكي للشرق الأوسط وهو أمر لا يمكن لأي أديب حقيقي أن يدعمه
.
ويكفى قولًا أن النظام الوحيد الذي دعمه الأسواني طيلة حياته كان نظام الإخوان؛ حتى ندرك من صنعه، ومن روج له، ومن رصص فيالق المطبلاتية من أجله، ومن بحث له عن المترجمين هنا وهناك، حتى في ظل بعض المشاحنات التي جرت بين الطرفين عقب ثورة 30 يونيو 2013؛ فهذا لا ينفي شهر العسل الخلاب بينهم، قبل قيام الشعب المصري بمحو كل هؤلاء، ووضعهم في ركن مهمل من كتب التاريخ
.
.