بقميص سماوي يحمل خطوطًا بيضاء وسروال بسيط، جلس أمل دنقل واضعًا ساقًا على ساق وهو يلوذ بالحصن الحقيقي لكل الناس الحقيقيين: الصمت والتأملات.. عظام وجنتيه بارزة ونحوله لافتة، أما شاربه الكث فيتمدد مرتاحًا مثل ضيف يجلس إلى وليمة عامرة؛ بينما خصلات شعره التي لم تفقد بعد غزارتها تبدو مثل قباب تلوح من على البعد، دون لمعان هذه المرة، تحت شمس بعيدة.. إلى جواره يجلس عبد الرحمن الأبنودي.. شعره يشبه كرة شراب غير مشذبة حسبما هي الموضة في السبعينيات.. يرتدي "جاكت" رمادي اللون، وينتقي عباراته بحرص يليق بشخص يعرف أن الكاميرا دارت!
كان الاثنان ضيفين في حلقة قديمة من برنامج "أمسية ثقافية" قدمها فاروق شوشة نهاية السبعينيات حين لم تكن أجهزة التكييف تعرف طريقها بعد لاستوديوهات ماسبيرو، وكان على الضيوف أن يأتوا بمنديل "محلاوي" من القماش المقلم يمسحون به حبات العرق الغزير التي تنبت سريعًا على جباههم مثل لعنة أبدية. الحلقة أذاعتها قناة "ماسبيرو زمان" والمنديل أحضره واستعمله الأبنودي.
تكلم أمل عن مفهومه للشعر ووظيفة الشاعر ببساطة دون نرجسية أو "شو"، بينما اختار الأبنودي أن يظهر بمظهر أصحاب الرسالات الكبرى حين أكد أن انحيازه لشعر العامية يعود إلى أن نسبة كبيرة من الشعر لا تقرأ ولا تكتب"، وبالتالي حقهم علينا أن نقول لهم شيئا يفهمونه".
ولم ينس أن يؤكد أنه نذر نفسه لجمع التراث الشفاهي الشعري مثل أغاني الحصاد والسبوع والنواح والشادوف "مهما كلفه من عمر وقروش غلبانة"! وحين أراد الأبنودي أن يتطرق إلى مرض أمل؛ بدعوى المجاملة واستدرار العطف، محرضًا شوشة على التنويه بهذا الأمر، رفض أمل بكبرياء، وحسم مؤكدًا أن مرضه شأن شخصي يخصه هو فقط، وأنه حين يلقي مقطعًا من قصائده فسوف يختار ما يتلامس مع الشأن العام.
قال أمل مقطعًا من قصيدته التي حملت عنوان ديوانه الأول "مقتل القمر".. تأملوا المقطع وستعرفون ما أراد قوله؛ لكن حكمة الأربعين أوصتني بالسكوت عنه:
....وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس
في كل مدينة،
(قُتِل القمــر)
شهدوه مصلوباً تَتَدَلَّى رأسه فوق الشجر
نهب اللصوص قلادة الماس الثمينة من صدره
تركوه في الأعواد،
كالأسطورة السوداء في عيني ضرير
ويقول جاري
كان قديساً، لماذا يقتلونه؟
وتقول جارتنا الصبية
كان يعجبه غنائي في المساء
وكان يهديني قوارير العطور
فبأي ذنب يقتلونه؟
وتدلت الدمعات من كل العيون
كأنها الأيتام – أطفال القمر
وترحموا...
وتفرقوا....
فكما يموت الناس... مات
وجلست،
أسأله عن الأيدي التي غدرت به
لكنه لم يستمع لي،
... كان مات