اللغة – عند الدول المؤمنة بالعلم - أداة من أدوات دراسة المجتمع وتحديد مشكلاته ووضع آليات حلولها، ذلك أن اللغة ليست فردية، وإنما هي ظاهرة اجتماعية، لها نظام قائم بذاته، يمكن دراسته عبر العناصر المكونة للمجتمع (الفرد – الجماعة – الجماعات الأكبر المنتمية إلى لغة واحدة).
موضوعات مقترحة
ومن هنا فإن اللغة لا يجب أن يتم النظر إليها ودراستها في ذاتها، وإنما في ارتباطها بالواقع الخارجي، لأنها تعكس ذلك الواقع وتترجمه إلى مفاهيم وتعريفات وجمل قابلة للتداول بين الأفراد، ومن ثم فإن التركيز في دراسة الأنساق اللغوية يكون دائما على السياق أو المقام context أي الحال الذي يتم إنتاج هذا الكلام فيه، ووظيفة هذا الكلام في السلوك الإنساني الواقعي والممارس بالفعل، وهنا تأتي تفرقة "دي سوسيور" رائد علم اللغة الحديث بين اللغة والكلام، فإذا كانت اللغة هي الرموز المختزنة في العقل، فإن الكلام هو النشاط الفعلي المترجم لهذه الرموز إلى تعبيرات يمكن فهمها، ومن ثم تداولها وقيامها بوظيفتها الاجتماعية في التواصل أو الإفهام أو تعديل السلوك، إلى آخر ذلك من وظائف الكلام.
وعليه تعود قوة وضعف اللغة ـ أي لغةـ إلى قوة وضعف مجتمعها، والعكس صحيح فعندما تضعف اللغة يضعف المجتمع، انطلاقا من كون اللغة ظاهرة اجتماعية، فحين كانت لغة المجتمع العربي قوية متماسكة قادرة على الإنتاج الثقافي (علوم فكرية وتجريبية) كان المجتمع قويا له منتجه الحضاري وهيمنته السياسية، وحين ضعفت اللغة ضعف المجتمع، وهو ما يمكن التمثيل له بالعصر العثماني الذي صارت فيه اللغة التركية لغة رسمية للبلاد، وتراجعت اللغة العربية وثقافتها إلى الوراء وبالتالي تراجع وعي المجتمع ، وتراجعت النظم السياسية، وغاب الوطن العربي في عصور الظلام قرابة أربعة قرون من الزمان.
وفي هذا الصدد يقول دي سوسيور: "إن جزءا كبيرا من العالم الحقيقي يوجد بشكل لا شعوري في العادات اللغوية لشعب ما"، وهو ما يشير إليه عالم النفس الأمريكي دينلاب:"يمكننا معرفة أشياء كثيرة عن حياة الشعوب والأمم عن طريق دراسة وتحليل اللغات التـي تتكلمهـا".
ويحفل تراثنا العربي بكثير مما يدلل على الربط بين اللغة وثقافة وحياة الشعوب، مثل المعاجم وتعدد المفردات والدلالات والتراكيب الدالة على سلوكيات المجتمع المذمومة والمحمودة، ومثل المواقف الدالة على العلاقة بين الوسط الاجتماعي واللغة، ومنها موقف الشاعر علي بن الجهم حين قدم من الصحراء ببداوتها إلى مدينة الرصافة في العراق على عهد الخلافة العباسية، وامتدح الخليفة المتوكل مشبها إياه بالكلب في صفات الوفاء، ولولا تفهم الخليفة للسياق الثقافي لانتهت حياة الشاعر حينها، والموقف في إجماله يمثل قليلا من كثير مما يدلل على العلاقة بين اللغة والبيئة الاجتماعية، وهو ما يمكن أن يمثل مجال بحث متسع في علم اللغة المعاصر للكشف عن القوانين التي تحكم هذه العلاقة بين اللغة والوسط الاجتماعي.
وفي هذا الصدد يعتمد علماء الاجتماع معيار العامل الاقتصادي في تقسيمهم المجتمع إلى ثلاث طبقات، وما يترتب عليه من مستوى ثقافي وصحي، وما يحصل عليه الفرد من خدمات:
- الطبقة الغنية: وتحصل على مستوى متميز من التعليم والصحة وتمتلك السلطة والثقافة.
- الطبقة المتوسطة: وتحصل على مستويات معتدلة مما سبق.
- الطبقة العاملة: وتحصل على الأقل، وغالبا لايكون لهم حظ من الثقافة أو التعليم.
وكل طبقة من هذه الطبقات لها مستواها الإدراكي (الوعي الذي يحكم منطق حياتها ويوجهها ويحركها، ويجعلها قوة دافعة أو معطلة للمجتمع)، وقد استطاع علماء الاجتماع من خلال دراساتهم المسحية والوصفية والتحليلية التوصل إلى أن لكـل وسـط اجتماعي معطياته الفكرية والماديـة ونمـط علاقـات اجتماعيه سائدة فيه، وهو ما يترتب عليه وجود نوع من التبـاين فـي مستوى ومضمون وشكل اللغة التي تسود في إطار كل وسط اجتماعي محدد.
وتحدد الظروف الاجتماعية لكل وسـط النموذج اللغوي المستخدم شكلا ومضمونا، في إطار عمليات نفسية واجتماعية معقدة، وهو ما يفسر لنا لماذا تعد اللغة عند العرب وجاهة اجتماعية مثلا، وذلك عند دراسة الوسط الاجتماعي للجماعات، والتراكم الثقافي للعادات والتقاليد والموروثات الفكرية وغيرها مما يتحكم في إنتاج اللغة لديهم، والذي سيكشف لنا أن لكل فئة من الفئات الثلاث (الغنية، المتوسطة، الفقيرة) طريقة لتداولاللغة، ومفردات تفرضها عليها طبيعة الحياة والتواصل الاجتماعي ومنظومة القيم السائدة بينها، وحتى داخل كل فئة أو طبقة توجد مستويات لتداول اللغة، وهو ما يمكن توضيحه بملاحظة أصحاب الصنائع والحرف، فكل مهنة لها مصطلحاتها ومفرداتها اليومية، مثل فئة الصناع، والفلاحين، والحرفيين.. إلخ.
ومن خلال التحليل اللغوي لخطابنا الثقافي يمكن ملاحظة حالة الفضفضة اللغوية، وعدم الضبط المصطلحي لمفرداتنا فكل كلامنا يحتمل العديد من المعاني وهو ما يمثل إشكالات عديدة في ترجمة الرسالة الكلامية بيننا، فعلى سبيل المثال لا توجد لغة في العالم تعني فيها كلمة (نعم) غير القبول والإيجاب إلا لغتنا العربية، فمعناها يحتمل القبول والإعجاب والرفض والسخرية والغضب وعدم الاهتمام والوعيد والصحة والخطأ، والفارق بين ذلك جميعه هو السياق.
كما يكشف هذا التحليل عن الواقع المزدوج لحياتنا، والذي يعود أحد أوجهه إلى نموذج معياري نتمثله في خطابنا الإعلامي أو في التعامل الرسمي وقاعات الدرس والمحاضرة أو أمام الآخرين عموما...إلخ ، ويعود وجهه الثاني لحياة فعلية نمارسها بقناعات ومبررات ترتضيها كل فئة أو جماعة أو أصحاب مهنة أو حتى داخل جماعات الأصدقاء.
من هنا يتحتم علينا البدء في دراسة أوضاعنا الثقافية ورصد مستويات استخدامنا للغة وطبيعة التراكيب اللغوية المترجمة لوعينا الثقافي وتصوراتنا عن أنفسنا وعن الأشياء من حولنا، والمعبرة في الآن ذاته عن مكانتنا ووضعنا على خارطة الإنتاج العالمي، لنستطيع الوقوف على ملامح وأبعاد الضعف والقوة في مجتمعاتنا.