Close ad

قراءة في كتاب "سحر البدايات"

9-12-2017 | 14:53
قراءة في كتاب سحر البداياتكتاب "سحر البدايات"
عزوز علي إسماعيل‎

كتابُ "سِحر البِدَايَاتِ" للدِّكتور خَزْعَلِ المَاجِدِي، الصَّادرُ عَـنْ دارِ "غُراب" للنَّشْرِ والتَّوزِيعِ، إضافةٌ حقيقيةٌ للمكتبةِ العربيةِ؛ ذلك أنَّ هذا الكتَابَ قـدْ جَعَلَني أضِيْفُ شيئًا لمصطلحٍ قد صَككتُه في مُعْجَمي عن "عَتَبَاتِ النُّصوصِ" وهو مُصْطَلَحُ "البِدَايَاتُ" والكتاب يستحقُّ التَّقدِيَر والكتَابَةَ عنه لمَا فيه من جُهدِ مبذولٍ؛ فهو يغوصُ في أعماق التَّاريخ وما قبل التَّاريخ؛ باحثًا ومنقبًا عن تلك البداياتِ الحَقِيقية في العلوم ومناحي الحياة كافة، فالبداياتُ في أي شيءٍ عَتَباتٌ نَـصِّــيَّةٌ لذلك الشَّيء أيًا كان نوعُ العلمِ المستعمل فيه، فبداياتُ الحضاراتِ عتبات على ما وصلت إليه كلُّ حضارة، وما الحضارةُ بأكملها إلا نصٌ مفتوح للجميع ينهلون منه.

موضوعات مقترحة

هذا النَّـصُ كانتْ له بداياتٌ، تلك البدايات تُسمى بِسِحْرِ البدايات، لماذا؟ لأنَّ البداياتِ دائماً فيها سحرٌ وعجبٌ؛ ذلك أنَّ الأمرَ لم يَكُن مَعروفاً من قبل فأصْبَحَتْ البِدَايةُ أو التَّجربةُ من العجائب أو إنْ استطعنا القول من السِّحر، أي من الشَّيءِ الخارقِ للطَّبيعة، حتى في بدايات العلوم والمعرفة، والخوض في علم جديد له أيضًا سِحْرُه وعجبه، فعباسُ بن فرناس حين أراد الطَّيران سَخِرَ منه الجميع، وأصرَّ على ذلك، ولكنَّه دفع حياته ثمنًا خدمةً للبشرية، وجعل العلماءَ يفكرون في الطيران وبالفعل كانت بدايته عجيبة، حيث وَقفَ العلماءُ عند هذا الحِّـد ليبدأوا منه رحلة البحثِ عن الطيران، فكانتْ الطائراتُ والصَّواريخ، وكل الأشياء التي تؤكد على قول المولى عز وجل "ويخلق ما لا تعلمون".

من هنا يمكن للدَّارسين البحث في بداية علم الطِّبِ مثلًا الذي كان في بدايته علاماتيًا، ذلك أنَّ العارفَ في الطِّب يعرفُ المرضَ من خلال العلامة التي يراها في وجه المريض، كما كان عند اليونانيين القدماء، وما حدث في الطب حدث أيضًا في الهندسة والفيزياء والطبيعة، والفلسفة ويمكن لأيِّ مُطَّلعٍ أومثقفٍ أراد دراسة شيء في تلك العلوم أو تلك الحضاراتِ فعليه بالبحثِ عن البدايات فسيجد فيها حبَّـاً وسِحْرًا يستهويانه.

يقول الدكتور خزعل الماجدي في هذا الكتاب: "البداياتُ سحرٌ ما بعده سحر، فبداية كُلِّ شيء إنَّما عتبةٌ للدخول إلى عالمٍ جديدٍ ما زال غامضًا محتشدًا بالأسرار، ومليئًا بالأسئلة. وفي داخل كلِّ إنسانٍ – شعر بذلك أم لم يشعر- نزعةٌ للبحث عن البدايات أو الأصول أو الجذور.. البداياتُ غامضةٌ دائمًا، ونزعة البحث عنها في داخلنا، هي الأخرى، غامضة، وفي الغموضين ما يمنحنا لذة مُزدحمة من شعور بالماضي الغائب والحاضر الجديد، وشعور بكثافة روحية وتبصُّر علمي في الوقت نفسه".

ونذكر - ما دمنا نبحث البدايات- ما خطه الدكتور خزعل "سِحْرِ البدايات" حين بحث في هذا الكتاب الضخم عن البدايات في أمور عديدة؛ بدءًا من بداية الكون والأرض والإنسان، فكلُّها بداياتٌ، وكما قلنا إنَّ البدايات والبحث فيها تستهوي الإنسانَ، ومرورًا ببداية التَّاريخ، والزراعة ووجود المجتمع، وبداية الكتابة نفسها، وبدايات الفنون، والأديان والعلم؛ لذلك فإنَّ تلك البدايات من الأهمية بمكان أن نتناول بعضها باعتبار أنَّها بداية للعلوم كافةِ، ومراحلها وما العلم والحياة والفنون والأديان إلا نصوصٌ لها بداياتُها الملهمة، ولها حياتُها التي عاشَتْها منْ أجْلِ الإنسانِ، وكان العلمُ هو الطريق الوحيد المعبِّر عن تلك البدايات تعبيرًا صَادقًا لا أسطوريًا كما كان الحال من قبل، لأنَّ العلمَ يُثْبِتُ الشَّيءَ بالدَّليل على وجود بداية هذا الشَّيء.

وإذا كان الكونُ بدايتُنا الأولى، فإنَّه في الوقت نفسه المتاهة الكبرى في حياتنا. يقولُ صاحبُ الكتاب: "منْ يُصَدِّقُ أنَّ الكونَ نشأ مِـنْ صدْعٍ في سديم الطاقة الذي لا أحد يعرف بدايةً أو نهايةً له، ذلك الصدع الذي بدا وكأنَّه رمية حجر في بركة ساكنة، ومِـنْ هذا الصدعِ الصغير جدًا انشقَّ نسيج الطاقة، وأحدث انفجارًا كونيًا أدى إلى انتفاخ بالوني من سطح النسيج، وهذا البالون تحديدًا هو الكونُ".

هذه كانتْ بداية الكونِ التي تناولها العلماء، وكيف أنَّ هذا الكونَ الذي نعيش فيه بدأ بذلك الانفجار العظيم، وما زال الكون في تمدده، وإذا كان العلماء قد حددوا أن الكونَ بدأ منذ 13 مليار سنة فإنه سيستمر إلى 100 مليار سنة، وهذا يؤكِّـد أنَّ الكونَ سيستمر في التمدد، وأنَّ خلقه كاملاً لم ينته بعد. كذلك الأمر في بداية الأرض؛ "حيث جاءت كلمةُ أرضٍ من اللغة السُّومرية حيث (أر) و(أرد) تعني الأرض، وقد دخلت هذه المفردات اللغات السَّامية والعريية وصارتْ (أرض) والنظرياتُ العلمية تقول: "إنَّ المجموعات الشَّمسية تكوَّنت كلها دفعة واحدة، فالأرضُ مثلاً لم تنفصل عن الشَّمس، وتبرد تدريجيًا، بل هي ولدت مع الشَّمس".

وقد تكونت الأرضُ منذ البدء من العناصر الأربعة المعروفة: النار والتُّراب والماء والهواء، وكانت هذه هي البدايةُ. أمَّا بدءُ الإنسانِ فكانت بدايةً تقريبًا كما أجمع العلماء منذ ثلاثة ملايين عام، وهي بداية بعيدة، تضرب بعمق في جذور ما قبل التاريخ، وهناك أساطير عديدة تحكي ذلك منذ أن خُلق آدم عليه السلام، وقد عاش الإنسان في البدء في الكهوف والغابات، وتغذى على الأشجار التي كان يتخذها لحافًا لجسده، وكان عليه أن يدافعَ عن نفسه من الحيواناتِ المفترسة، وما أكثرها آنذاك، وقد عاش الإنسانُ حالةً وحشيةً حين كان يصارع من أجل البقاء فانتقل من الوحشية إلى البدائية، وبدأ يكوِّن جماعات.

والحياة على الأرض أرغمت ذلك الإنسان أن يكون حيوانًا ناطقًا كي يعيش، ومن الطبيعي أنَّ البداياتِ تكون فيها نوعٌ من الوحشيةِ والصعوبةِ وكانت حياةُ الإنسانِ فيها ذلك الأمر، وعاش الإنسانُ فترةً طويلةً منذ 300 ألف سنة وهي الفترة التي حاول أن ينتقل فيها من اللاوعي إلى الوعي، ومع فجر التاريخ Dawn of history أو فجر الضمير Dawn of Conscience على حد تعبير جيمس هنري برستد، الذي يحدده العلماء منذ 12 ألف عام، بدأ الإنسان ينظم شؤونه.

يقول برستد: "إنَّ الحقيقةَ القائلةَ بأنَّ أفكارَ الإنسانِ الأول الخُلقية أتتْ نتيجةً لخبرته الاجتماعية الشَّخصية تُعدُّ من أعمق المعاني لرجال الفكْرِ في عصرنا".

وعن بدايةِ الكتابةِ، فإنَّها جاءتْ مع الصُّورة، لأنَّ التَّعبيرَ كانَ في البَدءِ بالصُّورة، وعليه، فإنَّ الصور واللوحات المرسومة على جدار الكهوف والمعابد ما هي إلا تعبيرٌ عن الحكي، ومنها الصُورة نفسُها أو اللوحة فاللوحة ما هي إلا تعبيرٌ بصريٌ عمَّا يجيشُ بصدر الفنان، فكانت تلك الصور وهذه اللوحات تعبيرًا صادقًا عمَّا يريدُ الإنسانُ قوله، والجديرُ بالذِّكر أنَّ تلك اللوحات القديمة المرسومة على جدران المعابد والكهوف أصبحتْ مصدرًا لإلهام الفنانين الكبار في العصر الحاضر، ومن هنا نقول إن الكتابة في عهدها الأول كانت بالرموز، وكانت الكتابة المسمارية السُّومرية هي مِنْ أقدم الكتابات، جاءت بعدها الكتابة الهيروغليفية بمقدار زمني يصل إلى 500 سنة تقريبًا، وكيف أنَّ الكتاباتِ المصرية القديمة بها أشكال تدلُّ على ذلك. وقد قسَّـم كتاب "سحر البدايات" تاريخ الكتابة إلى ثلاثِ مراحل تبدأ بالمرحلة اللانظامية التي كانت فيها الصُّور مبعثرةً على الصخور والعظام، ثم الكتابة النظامية، التي كان فيها نظام للرموز ونظام للتعبير بخاصة مع الكالكوليت في بلاد الرافدين، ثم المرحلة الثَّالثة الكتابة الأبجدية، والتي فيها بدأ الكلامُ على أساس الحروف الصَّـوتية انطلقت تلك الكتابة من جذرين أساسيين عراقي ومصري، مما يعكس التكامل الثَّقافي لحضارات الشَّرق الأدنى القديم، وكان ذلك في نهاية الألف الثَّالثة قبل الميلاد.

أمَّا الفنون، فإنَّ البداياتِ الخاصَّة بها لافتةٌ للانتباه؛ ذلك أنَّ الرَّسم وهو أولها كان موجودًا على الصُّخور، وتلك الرُّسومات كان لها الفضلُ في الكتابة، لذلك فإنَّ الرُّسومات الأولى كانت السَّبب في وجود الكتابة، وقد رصد الدكتور خزعل مجموعة كبيرة من تلك الرسومات، وربما كان كهف بلومبوس في جنوب أفريقيا قد وجدت على جدرانه أقدم تخطيطات فنية مرسومة على الصُّخور. وكان النحتُ من الفنون التي كانت بداياتها في العصور الحجرية القديمة، حيث أول منحوت وهي دمية فينوس بريكة رام أنثوية" من العصر الحجري القديم الأسفل، والتي تُعَدُّ اليوم أقدم قطعة فنية في التَّاريخ عثر عليها الأثاري ن. جورين إنبار خلال حفرياته في مرتفعات الجولان السُّورية في منطقة بركات رام في صيف عام 1981، والمنحوتة مصنوعةٌ من حصى بازلتي صلب".

وفنُّ العِمارةِ قريبٌ من فنِّ النَحْتِ، فمن الطَّبيعي أنَّ الإنسانَ الذي يعيش بداخل الكهف، أن يجعله منزلاً له يهتمُّ به، فظهرت قرى الصيادين في بلاد الشَّام في العصر الحجري الوسيط، تتكون من أكواخ بسيطة، والغريبُ أنَّ الإنسانَ الأول اهتم بعمارة المقابر أكثر من اهتمامه بعمارة المساكن نفسها. بينما المسرح وفن المسرح كان من الطبيعي أن يكون بعد أن استوطن الإنسان وبدأ يعيش في مكانٍ مستقرٍ بعيداً عن الغابات، وكانت الممارسات الدينية الأولى ما هي إلا إرهاصات أولية لفن المسرح، فضلاً عن مظاهر الزواج فكانت تلك المظاهر والطقوس من الأعمال الدرامية التي تعتبر بداية حقيقية للمسرح عبر التَّاريخ. وإذا تناولنا بدايات الموسيقى، فإنَّنا لا بُّـد وأن نشير إلى أنَّ الموسيقى هي عنوان الشُّعوب وما تبقى من أقدم ما وصلنا من آلات موسيقية كان قد عثر عليها في جنوب ألمانيا، وتعود إلى 3500سنة مضت وهي عبارة عن فلوت عظمي في كهف فليس هوهل، أي أنَّ الآلة الأولى كانت مصنوعة من العظام، سواء أكانت عظام بشرية أم عظام حيوانات برية.

وكان الشِّعر في بداياته عبارة عن أغاني مشددة وتراتيل فمن خلال اللغة والموسيقى والرقص نشأ الشِّعر الشَّفاهي كما جاء في كتاب "سحر البدايات". وفي العلوم جميعها تبدو البداياتُ مع العصر الحجري القديم كما في الفلك ورصد الكواكب، وفي الطب واستعمال الأعشاب من الطبيعة، وتجبير الكسور. وفي الفلسَفة أو حبّ الحكمة؛ حيث حاول الإنسان عن طريق الأسطورة البحث في العالم لمعرفة فلسفته، وظهرت قديماً الفلسفة عند الأشوريين والفراعنة القدماء.

من هنا فإنَّنا نعي أنَّ الحياةَ بكلِّ ما فيها منذ الخليقة وحتى الآن عبارةٌ عن نصوص يحياها الإنسان لها بداياتُها التي تميز كل فرع من فروعها.
 

كلمات البحث
اقرأ ايضا: