منذ عِدَّة سنوات، كانت رحلتي الأولى إلى المملكة العربية السعودية، إذ كنتُ أُحاضِر بجامعة الملك سعود، ومن ثَمَّ كان عملي استشاريًّا للعلاج النفسي بأحد مراكز الطب النفسي بمدينة الرياض؛ وبَعيدًا عن القوى الرُّوحانية التي تَبعثها الأرض المُقدَّسة بالمملكة، وما يمكنك أن تستشعره بداخلك من راحة وحالة من السَكينة والرضا وتفعيل لقوى الرُّوح؛ بَعيدًا عن كل ذلك، فلقد وجدتُ في المملكة قوى أخرى، قوى كامنة قادرة على تحرير كامل لقوى الرُّوح الحاضنة لجُلّ الطاقات الإبداعية المرتهنة.
وبرغم أن تلك القوى كانت خامدة كامنة، إلا أنها قوى بركانية تنتظر لحظة التَحرُّر كي تتجلَّى؛ إذ وجدتُ في الجامعة شبابًا واعدًا، لديه طاقاتٍ وأفكارًا إبداعية راقية، شبابًا يرغب في الحرية الملتزمة الواعية؛ وما وجدته في الجامعة وجدته في مركز الطب النفسي!
نعم، وجدتُ في مركز الطبي النفسي شبابًا وشاباتٍ تَعرَّضوا لضغوط مجتمعية حادة لم تحتمل بنيتهم النفسية مَدى وطأتها، فتعثرتْ خطاهم في طريق التَقدُّم، فقط لأنهم مختلفون، فقط لأنهم يرغبون في وطن يتسع لرؤاهم التقدمية البَنّاءة!؛ وجدتُ أرضًا بِكْرًا راغبة في الارتواء، كي تُنْبِتْ شجرًا أصله ثابت وفرعه في السماء؛ وجدتُ حُلْمًا يبحث عن التَحقُّق قبل أن يتحول إلى كابوس يَحتل العقل والجَسَد فتحتضر الرُّوح!
من أجل ذلك؛ تولَّدتْ لدي رغبة في المملكة كما تكوَّنتْ في عقلي؛ أرض كُرِّمتْ من الرب بِبَيته الحرام، وشُرِّفَتْ بقبر خير الخَلْق محمد - عليه الصلاة والسلام - وبعض صَحْبِه رضوان الله عليهم وعلى صَحْبِه أجمعين؛ أرض واسعة رحبة، وهبها الرب كل مقومات الحياة، كل مقومات التَقدُّم والريادة، فشعبها - جُلَّه - حافظًا لكتاب الله.
وأرى - وفقًا لتخصصي - أن مَن يحفظ القرآن ترتقي قُدرَاته العقلية إن أحسن استغلالها؛ كما وهبها الثروات الطبيعية منها البترول والغاز والبحار وغيرها من الثروات..
لذا؛ رغبتُ المملكة منفتحة على كل الثقافات والحضارات، ترتوي منها بما يناسبها ويتسق وتاريخها؛ رأيتها تحتضن شبابها وتعطيهم كل الإمكانات كي تتجلَّى طاقاتهم الإبداعية؛ رأيتُ المرأة تمتلك قرارها ومصيرها وحياتها؛ رأيتُ المملكة خضراء كعَلَمها..
ومع قدوم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بدأتْ المملكة التي رغبتها تَنهَض من ركودها، والصورة التي استقرتْ بعقلي بدأتْ تتكوَّن في الواقع، كما تتكوَّن قِطَع (البازل)؛ بدأتْ السُلْطَة القهرية التي وَلَّدتْ لدى الكثيرين من أبناء المملكة مشاعر القَلَق والتَوجُّس تتراجع؛ كما بدأتْ المرأة تتنفس وتستشعر أن الغَد يَحمِل لها ومضات بَعْد أن تَمكَّنتْ من بعض حقوقها، تلك الحقوق التي ستَظَل تتوالى إلى أن تَملك المرأة السعودية حريتها وحياتها بقبضتها.
كما بدأ الإبداع الفكري الفني يتباهى بوجوده بَعْد أن كان موضِع اتهام في الكثير من الحالات؛ فها هو الموسيقار المُبْدِع المتفرِّد يانّي Yann تستضيفه المملكة قريبًا لإحياء أربع حفلات موسيقية بجدة والرياض؛ إذن، هي صحوة وحالة من الحراك الراغب في الانفتاح الفاعل على الآخر وفقًا لعلاقة جَدَلية تفاعلية، تلك العلاقة الجَدَلية التي ينتج عنها - حتمًا - وهجًا فكريًّا إبداعيًّا.
والآن، تخوض المملكة أشرس حروبها، إنها تواجه الفساد، تواجه طيور الظلام الساعية إلى تفكيك المملكة والقضاء على استقرارها وأمنها؛ فالفساد ليس ماليًّا اقتصاديًّا فقط؛ بل هناك ما هو أخطر من الفساد الاقتصادي، إنه فساد العقول، فساد الرُّوح، إنه الفساد المُظْلِم الراغب في الهدم؛ الراغب في استمرار حالة الكبت المَرَضي لكل ما هو مشروع، بل لكل ما هو إبداعي.
لكن، هل للفساد القوة والإرادة القادرة على تدمير الحُلْم؟! هل لديه القوة القادرة على قتل حُلْم المملكة الناهضة المشعة الجامعة لكل ما هو إنساني، الحاضنة لكل ما هو تَقدُّمي يحمل بداخله التاريخ المشرِّف؟!
يمكنني أن أُجيب بلا؛ لن تستطيع قوى الفساد المُظْلِم القضاء على الحُلم، لن يتمكن الفساد من النور الذي عَرِف طريقه وتجلَّى؛ إنها حتمية التَطوُّر تخبرنا بأن التغيير لن توقفه قوى الفساد برغم شراستها؛ فالإنسان - كما وصَفه الفيلسوف الفرنسي ميرلو بونتى - كيان في صيرورة ودينامية في سبيل التَطوُّر.
وقوى الفساد المُظْلِم - تلك - ستَستغِل أيَّ حادثة فردية، أو أيَّ حادثة لِقِلَّة منحلة لا تعي معنى الحرية والرُقي، ولا تعي معنى التَحرُّر والتَقدُّم، تستغلها لتشويه ما يَحدُث الآن من حِرَاك نحو الغَد؛ وستَكثُر الشائعات، وستَلعب مواقع التَواصُل الاجتماعي وتطبيقاتها دورًا مهمًا في حملات التشويه لكل ما يَتِمّ من تغيير وتطوير، والتشكيك في نتائج كل ما يُبذَل من جهد، والترهيب مِمّا ستكون عليه المملكة.
وسيكون رهانهم الأكبر - قوى الفساد المُظْلِم - على المشاعر الدينية لدى الشعب؛ إذ إن جُلّ شعب المملكة لديه مشاعر دينية فياضة؛ لذا، ستكون تلك المشاعر هي السلاح الذي ستراهن عليه قوى الفساد المُظْلِم بكل ما لديها من حِقْد؛ لذا، يجب على المملكة البَدْء - مسرعة - في تجديد الخِطاب الديني، ورَفْع مستوى الوعي الجمعي لدى الشعب بجوهر الدين، وبطبيعة ما يَتِمّ في المملكة في هذه الفترة، وما تسعى إليه قيادتها الشابة من خلال رؤاها التقدمية الواعدة.
لذا؛ كم أزداد شوقًا للمملكة كما أرغبها؛ مملكة النور والحرية؛ مملكة العدل والمساواة؛ مملكة الفكر المستنير البَنَّاء؛ مملكة الماضي المشرِّف والحاضِر الطموح والمستقبَل المشرق؛ المملكة التي تُعلي من قيمة العلم والإنسانية الرحيمة النبيلة كما تُعلي من قيمة العقيدة السمحة.
من أجل ذلك؛ نعم، أزداد شوقًا للمملكة كما أرغبها، مملكة النور والحرية.