Close ad

مقاربة نقدية في "كتاب الوجه" للشاعر محمد حلمي الريشة

1-10-2017 | 11:43
 مقاربة نقدية في كتاب الوجه للشاعر محمد حلمي الريشة غلاف "كتاب الوجه".. والشاعر محمد حلمي الريشة
مريم شهاب الإدريسي

إنه الـ"ريشهديشت"، المعتق فلسفة "أبي حيان التوحيدي"، الناهل من حبر "زرادشت"، والغائص قراءة فكر "نيتشه".

موضوعات مقترحة

إنه دهشة الشعر، لا يفتأ يفاجئنا، ويدهشنا، ذاهل ومذهول به الحرف، لا أحد يقوله سواه وقد بلغ بالشاعر فيه حد أناقة الجرح وأبهة المخيلة الفطنة، يكتب ما يعتمل بدواخله، رغبة غريبة تشده للبوح شعرا بمجازه الذي يشد أنفاس القارئ له، فلا يملك من انبهار ببأسه اللغوي إلا أن يخفق نهى قلبه وقلب عقله إعجابا بدربته، وحنكته ورصانة مقصده الشعري الإنساني/ الفكري/ الوجداني، بأفراحه وأتراحه.

هي حالة الكتابة لديه مماثلة لحالة غليان قاسية، وتتخذ لها حالة هدوء قصوى غريبة سرعان ما يفجرها إبداعه حين يوشمها بسطوره. ويظل بكتابه هذا، الشاعر الذي بوحه ممزوج بحبر الملح، وما ملحه إلا اصطبار على نصب قصيد.
لا ندري من اختار الآخر نصيبا له؛ منفلت هو من بين الضلوع ليبحر بأمواج السطور، من الداخل فيه إلى الداخل الأكثر عمقا بكيان وكينونته الشعرية الشاعرية.

شاعر.. يرسم كلماته شغفا بشغاف قلبه.
صوفي.. حد العزلة المهيبة يتهجد بنبضه.
فيلسوف.. حد حكمة جريحة من غصة وطنه.
نحات.. ينحت قصائده همسا ووشما بذاكرة الروح.

شعريار ..بمجلس حكاياه نثرا وشعرا بذا السفر، وقد ارتسمت ملامح لغته على وجه إبداعه، عن يمينه يسامر "ابن رشيق القيرواني"، وعن يساره ذا "عبد القاهر الجرجاني"، وللمتنبي حظه الوافر سؤالا وبلاغة، محاورا "ابن خلدون" سائلا وقارئا وباحثا في التاريخ.

الشاعر محمد حلمي الريشة، المترجم الفذ، والمترجم له بلغات عالمية، المعد أنطولوجيات، والمقدمة عنه العديد من دراسات جامعية، ورئيس "بيت الشعر" بفلسطين، والتي لها أن تفخر به، أبان بإبداعه هذا أن دواته ما بالتي تنضب مع مرور الزمن، بل هو الذي لا يزال يثبت بكل قوة الشعر لديه بأسه اللغوي الحثيث الشديد.

وقد وجدتني وأنا أتنقل، بكل ثبات قراءة، بين صفحات الكتاب، أني فوجئت بالشكل المغاير الذي ظهر به العنوان والمضمون؛ فقد بدا الشاعر مبهرا بطريقة كتابته، مجددا بالإيماءات، وبطريقة صياغته للهايكو والتانكا، فتساءلت: كيف لي أن أكتب تقديما لكتاب متنوع لشاعر بهي سامق؟ وقبل ذا وذاك، لإنسان بقيمته الشعرية والكينونية والفكرية والثقافية؟!

أتراني أكتب بلغة تصف لغته؟ أم أتراني أسبر غور قصيده وهو المتمرس خيالا ومخيلة، والكاتم سر دلالاته ووحده المالك مفاتيحها؟ أيبذخ قلمي بالسؤال تلو السؤال: ما الذي يبغيه ويقوله؟ وما الذي يبوحه لكنه لا يذيع كل سره؟

وتأملت الكتاب بكل هوينى عقلي وهدوء نهاي، ووجدتني أمام طاقة شعرية لا حد لها ولا أفق، لا يكاد يوقفها شيء!

كتاب فيه من الفرح ما يبعث الهدوء بقلبك، وبه من الحزن الأنيق ما يدفعك أن تكتشف نفسك وهو يقول لنفسه ليقولك أنت القارئ له؛ يجذبك بسحره اللغوي بدون أن يفقدك بوصلة عقلك، ولا يبعثر نبضات قلبك!
"الشعر انعكاس الشاعر من داخله، وليس من خارجه"، يقول محمد حلمي الريشة.

سيد لغته، وما لغته سوى شعره بنفحة ريشته الحالمة الأخاذة بتعقلها، وبهذيانها، وبأناقتها، وجموحها، وبسيطرته عليها بكل شراسة حنوه، لا يريدها بغنجها، بل بمخمليتها العنيدة، كي يبرز سيطرته عليها، فيأسرها بدهشتها نفسها؛ وهي تسر له غوايتها، فيصر على كل هذا الإبداع بإبداعه المتفرد المتمرد لشاعر متفرد، أفرد جناحي ذائقة وعشق، فحلق بسماء ثامنة كي نرحل معه على متن إبهاره بإبحاره، وقد زودنا بعطر مخيلته وهمس قصائده، فبث في دواخلنا أنفاسا جديدة متجددة لنستنشق كميات هائلة من أوكسجين الروعة لنجدد به رئة الإعجاب.

أجل.. يحلق بنا بكل فصول لغته، وبكل حالاته؛ الإنسانية، والفكرية، والوجدانية العميقة، ولو بحزن، فهو الحكيم المتأمل؛ ما فصله سوى الخامس يمطر علينا شآبيب الروعة والدهشة والاندهاش! فكم يلزمنا من عين لقراءة هاته الحروف باللون الثامن بدون القزحية التي تشع حياة وقد كتبت بنصاعة روح! لكنه الصامت عن سره فلا يسره، ليترك للقارئ المحلق بخياله/ بروحه المقروء المحلق بفيضه وببوحه حرية التعمق والقراءة؛ ليظل للشاعر، برغم هذا وذاك، مفتاح كلماته ومغاليقها.

نباهة ذاكرة مع خيال يقظ متيقظ، يراودها بحزنه المعتق، لكن بمناعته هو، يعلن لنا لغة بصوت جهوري من خلال تركيباته اللغوية، وبنية مخارج صوتية هامسة بصهيل آسر، وبإيقاعات داخلية؛ نفسية، وعقلية، وتذوقية. هذا هو المتأمل، والفيلسوف الحكيم، والصوفي، والمتعبد في محراب الشعر واللغة! يتعمد هذا الصمت مجالا لأخذ نفس جديد، والانطلاق في رحلة حياتية فيضية شعرية متضمخة بالكثير من الوجع، والتذكر، والحنين، والبسمة.

"كتاب الوجه"؛ وما الوجه سوى ملامح تظل راسخة بمرايا عقولنا وقراءاتنا له، ملامح لا قناع وهو الزيف، إنه تجسيد للجمالية، وللحكايات، ولتكن صورة الروح إذا بملامح حزينة وأخرى باسمة؛ إنها الأنا الشاعرة التي نقرأ على جبين كلماته، وتأملاته، وتصوفه الروحي، ونسافر في خطوط قصيده التي ما هي سوى خطوط كفيه وجبينه؛ هو تناص مع روحه، ومع عالمه الدفين العميق، وتناص مع العديد من الآيات القرآنية الكريمة لاعتماده اللغوي والقرائي والتشبعي بكتاب الله، كما للغة إيقاعات داخلية وخارجية أيضا، ما يدل عليها؛ ولنعكس الصورة لتكن ملامح عقولنا القارئة تقابل مرآة الشاعر فيه، ليكتشف بنفسه وقع حروفه.

الشاعر الريشة بالغ الذكاء اللغوي، وله من الفطنة النداهة ما يجعلك تنساق بكل قناعاتك إلى اقتراف قراءة شعره بكل إصراره وترصده؛ يترك لك مجالا فسيحا جدا لقراءته بعينك القارئة، أو الناقدة، أو الباحثة، أو النهمة؛ فلا يضيق عليك الخناق، ولا قوالب لغوية معدة سلفا، ولا نهج تقليدي؛ وإنما ينتظر ردة فعلك، وما هي سوى أسئلة. شعره كما لغته، كما هو، ينتظر من قارئه مكاشفة. ما بالمنتظر مدحا أو إعجابا بقدر ما يطلق حروفه بسخاء، لا يريدها زاجلة تعود إليه. يخاطب فيك شهوة السؤال، يثيرها، ويستفز ذائقتك، لكنه لا يخدش حياء فهمك، ولا يوجع عينيك، بل يستلهم لهما الأناقة والجمال.

إن الفكرة حين تجول بصدغ مخيلته تنضح بكينونتها التي هي بالأصل كينونة ذاته الشاعرة، بملوحة الحبر المصاغ من دمع قلبه، لكنه لا يذرفه لعزة نفسه، ومن ملوحة عرق يتصبب من صدغ الذائقة لديه، هكذا الاشتعال حين اشتغال الفكرة لدى الشاعر الريشة؛ تظل خلاله حين تطل "فكرته العالية" كموجة عالية الهدير، لكنها الغاوية النداهة للسباحة، تتلبس القارئ الفكرة، وقد تقوت اللغة الواسطة بين أنا الشاعرة فيه وشعره.

ما بين نجاة لغة الشاعر المنعتق بها كل الانعتاق، والتي يتمثلها شعرا كما نثرا من اللغو، وبين مخيلة مدركة مدركة لاحقة، تظل الفكرة ما بين حضورها وغيابها ما يخلق لشعر الريشة هذه الجمالية التي ما تنطلق من كتابة من أجل الكتابة فقط، بل هو البحث الدائم عن جديد مدهش مندهش، بحث حثيث لتكون الفكرة، كما صدح بها دائما، ذات سؤال يمنحه لقرائه أنه الباحث عن نداهة في برمائية الحياة بكل عبثية الشعر الجميلة دونما تحميل كلمة "عبثية" ما يبعثرها دلالة، بل بمعناها الفلسفي، وهذا ما يليق بها وتليق بحبر الشاعر وبريشته حين يعتمدها كلمة ببعدها الدلالي الحق لا السلبي، لكن بتعدد القراءات، وبعين ثالثة عميقة البحث؛ عين تكاد يمامية حين ينتشي بها ومنها وفيها عقل القارئ المتميز؛ "النص كمن يقرؤه"، هكذا يعلنها محمد حلمي الريشة بكل أريحية التفرد والتفرد الإبداعي.

شد انتباهي الإخراج الفني للغلاف، وهو من تصميم وتنفيذ الفنان عمر، نجل الشاعر، وقد أجاد تصميمه بحرفية وإتقان، ليساير ما خطته حروف الشاعر الكبير؛ خلفية بلون أخضر هادئ له جدار هو حصنه الحصين يترك عليه ظله رسما بالكلمات، هي ملامحه، هي هويته؛ قصائده سيرة حياة، وسيرة حبر لا يزال يروي أرض التاريخ بكل قدسية الكلمة، بكامل قواه التأملية العميقة الماوراء القصد الحرفي، والبعد الدلالي، والأثر الجميل التارك أثره الأجمل. تناسقية الألوان ما بين لون أصفر كان دائما ورقا للديباجة، ولون بنفسجي هو ورود عطاياه الشعرية، ولون أزرق هو الحبر كما لو أنه زرقة بحر عميق لا يجيد الغوص فيه إلا من خبر اليم، وما منح الزبد موطنا له بدواة ولا بكفيه؛ ينطلق من ذاته ليرى الآخرون ذواتهم بمرايا حروفه؛ أليس هذا هو دور الشاعر فعلا، أن يغوص في نفسه، ويطارحها السؤال، ليدرك ما يمكن إدراكه؟!

كل موجة صياغية كتابية هي إضافة بل تزكية لقوة اللغة وجبروتها الجمالي العميق للشاعر ما دام من حبر هو الحبر نفسه من الدواة نفسها، لكنه حبر التجدد من خلال الطريقة التي غمست فيها الريشة هامتها لتتمزج وتتمازج الفكرة التي ستتشكل من ماء الحبر، فتمنح الحرف، فالكلمة، فالسطر، مشاهد شعرية لازوردية اللون، وإن بنثر قد استقاها الحبر من مدى سماء مخيلة، فانعكست بها، وكانت مرآتها الذهنية والحسية أيضا، وما وراء ذلك، تقرؤها عين القارئ بأبعاد العين، والعقل، والقلب. وفعلا كما قلت أيها الشاعر الدهشة: "للكتابة غبطة كاتبها وقارئها."

الشاعر محمد حلمي الريشة... لشخصك، ولقامتك الرفيعة الحضور والبهاء الشعري، ما يعجز أي حرف أن يوافيك حقك أدبيا من شكر وارف بظله الظليل، والممتن لك لكل هاته الجمالية النورانية التي وهبتها لقرائك وهي عصارة قلب الشاعر فيك، وسيرة حياة شاعر آثر حرية ريشته، وقايضها محرابه، ليبعث كل هذا النقاء الروحي، ويشع محبة الشعر وعشقه بالقلوب والعقول. فهنيئا للشعر بك، وهنيئا لك بك، وهنيئا لفلسطين بك، وهنيئا لنا بك أكثر.
_____
(مريم شهاب الإدريسي/ شاعرة وناقدة من المغرب)## ## ##

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة