في واحد من أهم شوارع نيويورك - عاصمة العالم السياسية التي تضم مبنى الأمم المتحدة، والعاصمة التجارية التي تضم بورصة نيويورك، وفي حي مانهاتن حي الأغنياء والبيزنيس - كنا نسير مع مرافق أمريكي من أصل عربي، ولفت أنظارنا أحد الفنادق الفخمة الشهيرة، وإذا بصديقنا الأمريكي يقول "صاحبة هذا الفندق تقضي عقوبة التهرب الضريبي في السجن".
صاحبة الفندق ارتكبت فعلًا مشينًا يهدد الاقتصاد الأمريكي الأكبر في العالم، وهو أنها استعانت بخادمة في منزلها من العاملات في الفندق الذي تمتلكه، إلى هنا ولايوجد مشكلة، ولكن سيدة الأعمال حملت أجور العاملة على مصروفات الفندق، وادعت أنها تعمل في الفندق؛ بينما هي تعمل في منزلها، وزورت أوراقًا لتتقاضى الشغالة مرتبها من خزينة الفندق الضخم الذي يضم عشرات وربما مئات من العاملين في أعمال النظافة والمطابخ والمطاعم والحدائق والاستقبال والغسيل والكي، وعشرات المهن المساعدة، ولم يشفع لسيدة الأعمال علاقاتها القوية مع عمدة المدينة، ومع دوائر اتخاذ القرار من السياسيين وأصحاب الأعمال، وكان مصيرها قضاء فترة في السجن بتهمة التهرب الضريبي من سداد عدة دولارات، وهي التي تمول الخزينة بمئات الآلاف، بل الملايين من الدولارات سنويًا.
ذكرتني تلك الواقعة - التي مر عليها سنوات طويلة - بما يحدث تلك الأيام في المدارس الخاصة في مصر من فوضى مالية، وتصرفات أصحاب تلك المدارس، وكأنها عزب خاصة لا تخضع لأي رقابة.
كل مدارس مصر الخاصة تقريبًا لا يعلنون بوضوح عما يتقاضونه من مصروفات، ولا يعطون إيصالات رسمية لأولياء الأمور عند دفع الأقساط، وبعض تلك المصروفات يتم تسميتها بمسميات مختلفة؛ حتى لاتحتسب ضمن الإيرادات التي تراقبها مصلحة الضرائب، وتجد إيصالًا مكتوبًا عليه رسوم مدرسية، وآخر أنشطة مدرسية، وثالث عبارة عن ورقة مطبوعة على الكمبيوتر وبدون أختام بمسمى كتب مدرسية.
وهكذا يتهرب أصحاب المدارس من رقابة الأجهزة المسئولة عن متابعة إيرادات ومصروفات تلك المدارس، وبالطبع من يفعل ذلك مع الإيرادات يستخدم الأساليب نفسها مع مصروفات المدرسة ونفقاتها، ولا مانع من استخدام "فواتير مضروبة" من مقاولي الصيانة والموردين وتكاليف السيارات، وتجهيز وصيانة المعامل والمكتبات، وتجهيز الفصول والأنشطة المدرسية والرحلات وبعضها يتم على الورق فقط.
الحل بسيط لإحكام السيطرة على تعاملات المدارس باعتبارها منشأة أعمال مثل المستشفيات الخاصة والأندية الخاصة أو أي منشأة اقتصادية تستهدف الربح، الحل هو أن كل التعاملات تتم من خلال حسابات المدرسة في البنوك، ولا يتم دفع جنيه واحد إلا من خلال الحسابات البنكية المحددة والمعلومة للضرائب ووزارة التعليم، وفي حال اكتشاف أي محاولات للتحايل أو تجميع أموال بطرق مباشرة من المدرسة يتم توقيع عقوبات رادعة، واعتبارها تهربًا ضريبيًا وجريمة مخلة بالشرف.
وغنى عن القول: إن من يعمل في صناعة التعليم يجب أن يكون من المشهود لهم بالأمانة والأخلاق الحميدة، وليس فقط الكفاءة الإدارية، حتى يعلموا أبناء هذا الوطن أن الصدق وحب الوطن، تعلو حب المال والمكاسب غير المشروعة، وأن النشاط التعليمي هو في الحقيقة نشاط تربوي في الأساس قبل أن يكون "ييزنس تعليمي".
طبعًا من حق كل رجل أو سيدة أعمال من أصحاب المدارس أن يحققوا أرباحًا تعادل الجهد الكبير المبذول؛ لتحقيق نتائج تعليمية من أجل إنشاء أجيال جديدة قادرة على المنافسة في سوق العمل، ولكن ليس من حقهم إعلاء أهداف المكسب فوق العملية التعليمية وأن تكنز الأرباح، معروفة بشفافية حتى لا نفاجأ بأن المدرسة أصبح لها فروع في أكثر من حي، وكما نعلم أن إنشاء مدرسة يحتاج إلى عشرات الملايين تأتي من الأرباح، وغالبًا ما يكون ذلك على حساب معايير أخلاقية.
إحدى مدارس المعادي رفعت رسوم الأتوبيس إلى 8 آلاف جنيه للطلاب الذين يقيمون في نفس الحي، والذين في مناطق أبعد تكون التكلفة أكبر، ومن يعترض تكون الإجابة "الأتوبيس اختياري، ويحق لك أن تستخدم وسيلة أخرى"، وهي إجابة تبدو منطقية، ولكنها أشبه بإجابة من يحتكر سلعة ويقول لك "إللي مش عاجبه مايشتريش"، وأصحاب المدارس يعلمون أن كثيرًا من الآباء يعملون ليلًا ونهارًا ليوفروا لأبنائهم مصروفات المدرسة، والأم تعمل نهارًا لتعود إلى منزلها لرعاية أبنائها، ولن يستطيع معظمهم إيجاد الوقت لتوصيل أبنائهم من وإلى المدرسة، وبالتالي هم مرغمون على قبول شروط المحتكر؛ للتعامل مع هذه الخدمة، وهي توصيل أبنائهم، وبحسبة بسيطة نجد أن الطالب الذى يدفع 8 آلاف جنيه يستخدم الأتوبيس في رحلة يومية ضمن 30 طالبًا آخر، وتكون الحصيلة 240 ألف جنيه في رحلة يومية ولمدة 5 أيام في الأسبوع بخلاف إجازات الأعياد القومية والدينية، وما أكثرها في مصر أي نحو 160 يومًا على الأكثر في 9 شهور دراسة، وبذلك أصبح "بيزنس المواصلات" في المدارس مصدرًا مهمًا للدخل لا يقل أهمية عن المصروفات المدرسية.
ارحموا أولياء الأمور، وساعدوهم على تربية أجيال صالحة قادرة على تنمية هذا البلد؛ خاصة من لديه أكثر من ابن، ولا توجد فرص لتعليمهم في المدارس الحكومية التي أصبح حالها يرثى له، وتدهورت أوضاعها ليصل عدد الطلاب إلى أكثر من 60 طالبًا من الصعب على أي مدرس - مهما كانت قدراته وكفاءته - أن يقدم لهم خدمة تعليمية جيدة أو حتى متوسطة
راقبوا المدارس الخاصة، و"بيزنس التعليم"؛ حتى يتم إصلاح العملية التعليمية في المدارس الحكومية، وهو ما يحتاج إلى سنوات وأجيال، ولتكن الخطوة الأولى هي أن تكون المعاملات المالية من خلال حسابات بنكية، حتى لا يتحول التعليم الخاص إلى "اقتصاد غير رسمي"؛ مثل صناعات بير السلم العشوائية غير المسجلة، والتي تنتج سلعًا عشوائية بدون مواصفات قياسية.