الجائع وفوبيا إسقاط الدولة

8-8-2017 | 00:57

تكلَّم عالم النفس الأمريكي الشهير ماسلو عن احتياجات الإنسان، وقام بترتيبها فيما عُرِف باسم هَرَم ماسلو للاحتياجات؛ قاعدة هذا الهَرَم هي الاحتياجات الفسيولوجية، ومنها الحاجة للطعام والشراب والمَلْبَس وراحة الجسد؛ يأتي بَعْد الاحتياجات الفسيولوجية الحاجة للأمان، وتتنوع صور الشعور بالأمان ما بين الأمان المعنوي والأمان المادي؛ وتأتي قمة هَرَم ماسلو لتتمثل في الحاجة إلى تحقيق وتقدير الذات.

ومِن هَرَم ماسلو الذي يُمثِّل الرؤى العلمية النفسية للإنسان يتضح أن الوجود البشري قائم على بِنْية تحتية وبِنْية فوقية شبيهة - إلى حَدّ التطابق - ببِنْية المجتمع؛ إذ تتمثل البِنْية التحتية للوجود البشري في الحفاظ على الوجود العضوي، أي الحفاظ على الجسد من خلال تلبية احتياجاته، تلك الاحتياجات التي يُهدِّد افتقادها أو نقصها حياة الإنسان، وهذه الاحتياجات هي البِنْية الأساس لأي وجود إنساني ممكن؛ بينما البِنْية الفوقية تتمثل في تحقيق الذات وتقديرها.

الذات، ذلك المفهوم الإنساني المتفرِّد بين كل الكائنات الحية، تلك الذات الراغبة في الوجود، الراغبة في التحقق واكتساب التقدير من الآخر؛ إذن، الإنسان كي يكون إنسانًا يتحتم تأمين احتياجاته الفسيولوجية وإشباعها كي يتحقق الوجود الفردي العضوي، أي يتحقق للإنسان الأمان على حياته، إذ بتحقُّق ذلك الإشباع ينتقل الإنسان من المستوى الأدنى من الإنسانية إلى مستوى أرقى وهو مستوى الأمان المادي والمعنوي، وفي ذلك المستوى يبدأ ظهور الوجود الجمعي، فيهتم الإنسان بأسرته وسلامتها والبيئة التي يعيش فيها فهي الركيزة لأمانه وأمان أسرته.

من هذا المنطلَق العلمي النفسي يمكننا القول بأن الإنسان لا تعنيه مشاعر انفعال الخوف حول البيئة التي يعيش فيها، بل لا يعنيه مقدار التهديد الذي يحيط ببيئته في حال افتقاده إشباع المستوى الأدنى من الاحتياجات؛ بمعنى آخر، من العبث أن ننتظر من إنسان يكابد ويلات هاجس فناء حياته - أي وجوده الفردي - أن يهتم بمجتمعه وما يعتريه من مخاطر، إذ يغيب الوجود الجمعي عن حسابات الجائع!

ومِن قبل ماسلو نجد القرآن الكريم يطرح تلك القضية المتصلة بالوجود البشري، إذ أتى النَصّ ليتحدث عن احتياج الإنسان للطعام والأمان، ويكشف عن حتمية تحقيقهما كي يستمر الوجود البشري، فهما من دعائم استمراره في الوجود؛ لكنه النَصّ القرآني يأتينا بحقيقة قطعية، وهي أن إشباع الحاجات الفسيولوجية مُقدَّم على الحاجة للأمان " الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " (قريش:4).

هنا يمكننا التحدث عن فوبيا إسقاط الدولة؛ وبعيدًا عن المؤيد والمعارض، لي رؤية تحتمل الصواب والخطأ، ويمكنني صياغتها في كلمات:

الجائع وفوبيا إسقاط الدولة؛ لا يوجد إنسان لا يخاف على وطنه إلا الخائن أو مختل العقل؛ وشعب مصر تَحمَّل الكثير ولم تزل لديه الرغبة في تَحمُّل الأكثر من أجل مصر، لكن، هل مَن يهدَّد في حياته بالعوز لديه القدرة على الإبصار أبعد من رغيف العيش وكوب الماء وعلبة الدواء؟ هل مَن اهترأتْ ملابسه لديه القدرة على الإبصار أبعد من "متر قماش" يتم تكفينه به؟

هل مَن ارتدّ وعيه إلى مستوى الوعي الفردي وأصبح ما يسيطر على تفكيره هو "أعيش أو أموت" لديه القدرة على العودة إلى مستوى الوعي الجمعي؛ الذي يسعى إلى تحقيق مصلحة المجموع ومن ثَمَّ الوطن؟ أحسبه الجائع والمريض والمهترئة ملابسه يقترب من منطقة الكفر التام بالوطن؛ لكنه هذا الجائع والمريض ومَن اهترأتْ ملابسه هو مَن حلم بمصر الأمل، وهو ذاته مَن تَحمَّل ولم يزل يحلم ولم يزل يَتحمَّل، لكنه العوز إن التحم بالإحباط يكون الكفر، وهذا ما لا يرغبه أي مصري يؤمن بالوطن.

مصر محاطة بالكثير من المخطَّطات الهادفة إلى إسقاطها، ولا ينكر ذلك إلا فاقد البصر والبصيرة؛ وهناك من يُنفِّذ تلك المخطَّطات من داخل مصر وخارجها، والشعب يعي ذلك تمامًا، ويجب التوعية وتأكيد ذلك كي لا يغيب عنّا ما يتم من أعداء الوطن؛ لكن بجوار ذلك يجب تأكيد طبيعة الفترة الراهنة، وما يتم فيها من أجل المواطن، وما سيتم تحقيقه في الفترة القريبة، والأهم من ذلك يجب الالتفات إلى وضع المواطن الذي يكابد الغلاء، ذلك الغلاء الذي أوشك أن يصل بالمواطن حَدّ اختيار الموت بدلًا عن الحياة.

وننتقل إلى نقطة أحسبها مهمة، وهي الخوف من الخوف، من المتعارف عليه نفسيًّا أن هناك حالة تصيب الإنسان تتمثل في أن يكون خائفًا من أن يخاف؛ تلك الحالة تجعل الإنسان دائم القلق، شديد التوتر سريع الاستثارة ومشتَّت الذهن وكثيرًا ما يصدر عنه أفعال عدائية؛ سواء كان العدوان لفظيًّا أَم جسديًّا ماديًّا، وسواء كان ذلك العدوان ضد الآخر والمجتمع، أَم ضد ذاته نفسها؛ ومع الوقت قد تتحول تلك الأعراض إلى حالة من التبلد التام، واضمحلال الانفعالات، عندها تكون السلبية واللامبالاة والأنانية المفرطة، إذ يهيمن مبدأ "نفسي نفسي، ونفسي وما بعدي الطوفان".

وحالة الخوف من الخوف حالة مَرَضية فردية، لكنها قد تكون ظاهرة نفسية وبائية، بمعنى أن محاصرة مجتمع بعينه بمثيرات القلق والخوف بشكل مستمر لفترات طويلة قد يخلق في المجتمع حالة الخوف من الخوف، وعندها تتفشّى الأعراض سالفة الذِكْر؛ وفي هذه الحال يتعرض المجتمع للكثير من المعوقات البشرية التي تقف أمام أيَّة تنمية ممكنة!

وأختتم كلماتي بحتمية الالتفات إلى فوبيا الجائع من استمرار الجوع، حتمية الالتفات إلى خطورة انتشار حالة الخوف من الخوف.

[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
مملكة المُستقبَل السعودية كما أرغبها

منذ عِدَّة سنوات، كانت رحلتي الأولى إلى المملكة العربية السعودية، إذ كنتُ أُحاضِر بجامعة الملك سعود، ومن ثَمَّ كان عملي استشاريًّا للعلاج النفسي بأحد مراكز

مصر بين "قيم" أبوسيف و"حلاوة روح" السبكي

الفنون على تنوعها، هي المرآة العاكسة للواقع الثقافي النفسي الحضاري للمجتمع؛ ويمكننا تأكيد أن الفنون تقوم بعملية التأريخ لحقبة زمنية من حياة المجتمع، بالإضافة