الفنون على تنوعها، هي المرآة العاكسة للواقع الثقافي النفسي الحضاري للمجتمع؛ ويمكننا تأكيد أن الفنون تقوم بعملية التأريخ لحقبة زمنية من حياة المجتمع، بالإضافة إلى كونها تنقل أفكار وقناعات ووجدانات مبدعها للمتلقي؛ لكن الأهم من هذا - وفقًا لرؤيتي - هو ما تتركه تلك الفنون من أثر في اللاشعور الفردي، ومن ثَمَّ في اللاشعور الجمعي، ذلك اللاشعور الجمعي الذي يُحرِّك جُلَّ أفراد المجتمع بطريقة شبه آلية، وهنا لا أَصِفّ الإنسان بأنه مسلوب الإرادة، بل أقصد ما تفرضه الحتمية النفسية على الفرد من أفعال وأفكار ووجدانات.
إذن؛ الإبداعات الفنية - ومنها السينما - واحدة من العناصر المهمة التي تُشكِّل اللاشعور الجمعي الذي يُحرِّك الشعور؛ أي الوعي؛ فنحن نتوهَّم كثيرًا أننا نأتي أفعالنا بوعي كامل وإرادة كاملة، لكننا في الواقع أسرى - بمستويات مختلفة - لقوى اللاشعور. ومن هذا المنطلَق تأتي الفكرة الرئيسة لهذا المقال؛ إذ إن حاضر الشخصية المصرية قد تم تحديد مساره من خلال عِدَّة قوى اقتصادية وسياسية ودينية وغيرها من القوى.
لكن ما يعنينا هو قوة الفن السينمائي، قوة الصورة التي تُستَلب الذات فيها؛ تلك الشاشة البرَّاقة التي تشبه شاشة البحيرة التي انعكستْ صورة نرجس عليها فافتُتِن بها إلى أن ابتلعته بَعْد أن ألقى بجسده فيها؛ لتكون النهاية الحتمية بالموت.
وبالعودة إلى عنوان المقال نجد المبدع الراحل صلاح أبوسيف، صاحب الرؤية الثاقبة للواقع المصري؛ رائد الواقعية في السينما المصرية، قد استطاع بحَدْس رهيف أن يمسك بالعناصر المتصارعة في المجتمع المصري ليُجسِّدها على الشاشة الفضية؛ واستطاع أن ينقل الواقع بأدَّق تفاصيله، ويرسم ملامح الشخصية المصرية بعذاباتها وأوجاعها وصراعاتها وآمالها وانكساراتها وانتصاراتها، وأيضًا بتشوهاتها الدونية وتمردها ورغبتها الجامحة في العُلا... استطاع أن يَتناول واقعنا المصري برُقي برغم ما كان يعتريه من خلل.
إذن؛ تمكَّن صلاح أبوسيف من تكوين صورة ذهنية إيجابية عن الشخصية المصرية؛ لم يزيِّف الواقع ولم يُجَمِّله، لكنه كان صاحب رؤية وصاحب رسالة إنسانية إبداعية تنويرية بنَّاءة؛ لذا كانت أعماله بمثابة ومضة عقلية تنبيهية تحذيرية ترغب في الإصلاح، وتغيير ما في الواقع المصري من تشوهات على مختلف الأصعدة، تَرتَّب على ذلك ارتفاع مستوى الوعي الفردي، وبالتالي انتشر في المجتمع المصري الوعي الجمعي، إذ الانتقال من تحقيق المنفعة الخاصة إلى السعي لتحقيق مصلحة المجتمع باعتباره وِحدة أو كلًا متماسكًا. ومع نمو الوعي الجمعي كانت هناك عملية نفسية لاشعورية تَحدُث؛ وهي تَشكَّل اللاشعور الفردي، ومن ثَمَّ اللاشعور الجمعي؛ ومع اللاشعور الجمعي والوعي الجمعي تَشكَّلتْ الشخصية المصرية؛ لتكون أهم ملامحها الانتماء والعمل والتمسُّك بالقيم العليا والسعي نحو حرية الذات من خلال تحقيق حرية الوطن واستقلاليته.
هكذا كانت التركيبة النفسية الاجتماعية للشخصية المصرية مع الإبداع السينمائي لصلاح أبوسيف ومَن شاركه نفس الرؤى الإصلاحية في شَتّى ميادين الإبداع الفني الأدبي العلمي الفكري؛ هكذا كان المجتمع المصري في لُحْمَته ومحاولاته في تحقيق النمو سعيًّا نحو التطور.
ومِن أبوسيف بحَدْسه الرهيف إلى آل السُبْكي تكون النقلة الرجعية الهدَّامة كما أرى؛ ومع آل السُبْكي نكون أمام قوة رأس المال وفلسفته القائمة على البيع والشراء والربح والخسارة، لتتحول العملية الإبداعية إلى مَسْخ سادي شَبَقي؛ فاللذة هي الفكرة الرئيسة التي هيمنتْ على الشاشة الفضية؛ ولتحقيق أكبر قَدْر من اللذة لا بُدّ من الخلطة السحرية الأشْهَر في تاريخ البشرية وهما "الجنس والعنف".
يؤكِّد التحليل النفسي فعَّالية الجنس والعنف في الحياة الإنسانية لدرجة أن ذهب فرويد إلى القول بأن حياة الإنسان مرهونة بغريزتَي الحياة (الجنس) والموت (العدوان أي العنف)؛ إذن؛ فلقد تَمكَّن آل السُبْكي بالحِس الرأسمالي من الوقوف على تلك القوة الغريزية المحرِّكة للوجود البشري؛ وأنا هنا لا أعني أن الإنسان مجرَّد حيوان شهواني عدواني مُدمِّر، لكنني أشير إلى مَدى قوة وتأثير الجنس والعنف في التركيبة النفسية للإنسان.
مَرَّ المجتمع المصري وبالتبعية الشخصية المصرية بالعديد من الصدمات في السنوات الأخيرة من حُكْم مبارك، وتصاعدتْ تلك الصدمات في مستوى حِدَّتها لتَصِل مستوى الانفجار لتكون ثورة يناير؛ وفي تلك السنوات - منذ ثورة يناير - كان الواقع المصري جاذبًا لكل عوامل التَبعثُر والتَفكُّك والمظاهر الفِصامية! ومع الحِس الرأسمالي لآل السُبْكي اكتملتْ الدائرة العبثية، فكانت سينما السُبْكي بخلطتها السحرية: راقصة وممثِّلة تَقْبَل بمَشاهد الإغراء الفج، مُغَنّي أو ممثِّل يَنقِل إلينا كلمات مثل (أديك في الجركن تركن)، والكثير من مشاهد العنف البعيد عن أفلام الحركة، بل هو بلطجة مع الكثير من الإسفاف.
ومع هيمنة تيار السُبْكي السينمائي انتشر ذلك النوع من الإنتاج السينمائي البعيد تمامًا عن الرؤى الإبداعية؛ ولسنوات عديدة قامت الشاشة الفضية بتكوين لاشعور جمعي ووعي فردي جديد، لاشعور شَبَقي شهواني، سادي عدواني؛ ووعي فردي أناني لا يعرف دلالة مفهوم الانتماء، واستطاع هذا الوعي الفردي أن يَقمع الوعي الجمعي، فتضخَّمتْ الأنا بنرجسيتها وعدم احترامها للآخر، بل عدم شعورها به، وإن أدركتْ الأنا وجود الآخر فإنها تسعى بكل قوة لإزاحته أو نفيه؛ فأصبحنا نتعامل مع بعضنا البعض كالأعداء، وتَشرنَّقنا على أنفسنا إلى أن أصبحنا غرباء عن بعضنا البعض وعن الوطن، بل أصبحنا غرباء عن أنفسنا.
إذن؛ نحن في حاجة ماسة لطرح تساؤل بسيط، لا يحتاج لمتخصِّص للإجابة عنه، وهو: لماذا نبكي ونتباكى على الماضي؟ وهنا نتحدث عن ماضي مصر؛ نحن نبكي الماضي، ونرغب في العودة إليه بقوة؛ لأننا نفتقد الشخصية المصرية، شخصية الإنسان المصري التي ضيعناها وأصبحنا نحيا بـ"حلاوة روح"، شخصية الإنسان المصري التي ضيعناها عندما أصبح اسم المصري "عبده موته"!!!
[email protected]