احتضانُ شيءٍ ضد التلف، هو أقصى ما تتمناه قبضةُ يدٍ تتوقع فناءها في أية لحظة. وأن تتلمس الأصابعُ أو تستشرف ما يمكن تعيينه والاحتفاظ به، هي رحلة غير مأمونة العواقب، صوب المستحيل، إذ يعتري التشكّكُ كلَّ شيء، بدءًا من سلامة الخلايا الحسية، وصولًا إلى فعل الإمساك بحد ذاته.
أما الشاعرة السورية بسمة شيخو، في مجموعتها "شهقة ضوء" ("مركز التفكير الحر"، السعودية، 2015)، فإنها تلجأ إلى حصن آخر، عساه ألا يتهدم، مفترضة أن ما قد يبقى، ولو إلى حين، هو ما تنتجه الأصابع، وليس ما تمسكه.
الظلال السوداء مثلًا، بوصفها مُنتَجًا، هل تدوم قليلًا على الأرض؟ ربما. الفانوس السحري الذي تدعكه الأصابع، هل يتفجر منه مارد يقهقه كغريب ضل طريقه في مأتم جماعي؟ وهل من فانوس أقدم وأقدس من القلب؟ وهل من مارد أبقى من الكلمات؟ وهل من تصالُحٍ مع الذات والعالم إلا في لحظات الغناء؟
"سأغني
حتَّى نتصالحَ مع الزَّمن
نكفّ عن لَعنِه
ويكفّ عن إتلافِنا"
بسمة شيخو لا تفقد القدرة على الفعل، أي فعل، في حياة عنوانها الوحيد غير القابل للتأويلات هو "الحركة". منمنماتها الشعرية ذاتها يجوز التفاعل معها بوصفها بذورًا خصبة قابلة للنماء، نثرتها يدٌ صغيرة، لم تفقد إيجابيتها وإيمانها بدورها الكبير مع حلول صيحة القيامة. أما النجاة من الطوفان المحدق، فإن لها أكثر من وجه، ولربما تحققت النجاة بالتضحية بالذات، التي تتحول إلى جسر تعبر عليه ذوات أخرى إلى ضفة آمنة.
"أشعرُ بأنَّني أَستطيعُ الطَّيران
أتَجه للشُرفةِ وأحاول
لا بُدَّ هُنالكَ عَصافيرُ تَسكنني
أَرمِي نفسي في بِركة المـَاء
أحَاول أن أُنقذَ الأسماكَ داخلي"
إذا لم يبتسم صوت العصفور، فهل من الممكن التقاط صورة لغنائه؟ هنا سعي مزدوج للشاعرة، التي تقدم تجربتها الشعرية بنكهة البساطة والسحر والخلو من مُكسبات الطعم.
هي، من ناحية، تجتهد كي تجعل العصفور مبتسم الصوت، ربما بمحادثتها إياه بلغته القريبة من روحه، الرشيقة، المكثفة، المليئة بمعطيات الطبيعة، المرتشفة أسرارها وكنوزها وحكمتها.
وهي، من جهة أخرى، تجتهد في التقاط صورة، بل ألبوم صور، لغنائه، مدركة أن تلك الصور صوتية وضوئية في آن، فيديوية الخيال، لا يمكن بلوغها إلا بتقنيات عالية تتلاقح فيها خلاصات الفنون من تشكيل وسينما وموسيقى وغيرها.
أما العصفور ذاته، فلابد ألا يشعر بالافتعال، كي يبتسم صوته بطلاقة، وتبدو صوره الملتقطة بعناية تلقائية، وهذا لا يتأتى سوى بأن تكون الورود التي في المشهد كلها غير اصطناعية، بل أن تكون الشاعرة شجرة.
"سأنسجُ لنفسي شَالاً من النُّجوم
ألقيه على أكتَافي
أصنعُ حذاءً منَ الأَمل
أحلِّق به كلَّ ليلة
سأكونُ
الشَّجرةَ الوَحيدةَ في السَّماء"
ولا يحول الإحساس العام بالفقد، بين الأقدام المتوثبة، ورغبتها في الوصول. وكما أن اختباء النجوم ليس معناه غياب الضوء، فإن غياب البوصلة ليس معادلًا لفقدان الدروب. ربما تُسمّى الرحلة متاهة، وربما، على الضفة الأخرى، ينتظر الحلمُ الضائعُ الملاحين الغرباء.
"النُّجومُ مختبئةٌ، خشيةَ الخَطف
والبُوصلةُ معطَّلةُ الإبرة
الجميعُ تائهٌ حَولي
في رحلتِه المَجهولة
نحو حلمِه الضَّائع"
بسمة شيخو، التي تشفق - ظاهريًّا - على الخفافيش اليتيمة من "شهقةِ ضَوءٍ ابتلعت الظُّلمة"، هي ذاتها التي لا تكتب إلا كي تحرر الضوء المحبوس في الفانوس السحري، لينهض من جديد كمارد أعرق من التاريخ، وأبقى من الخلود.
تسمّي الشاعرة أحد نصوصها "ساحرة بالفطرة"، متكئة بالضرورة على "إن من البيان لسحرًا"، وإن حلت جماليات نص قصيدة النثر محل البيان المشار إليه.
ولأن الحالة لا تقتضي أي زخرف، تنتفي الحاجة إلى الفانوس السحري التقليدي، بأضوائه المشحونة من زيف زائل. القلب مصباح يتجدد، ولا يتبدد، والمارد يخرج مبتسمًا، بل ضاحكًا بصوت عالٍ، لأنه يعرف قيمة خروجه من "الفم"، على وجه التحديد، وحقيقة ما يمتلكه من كلمات ينثرها، فتتلون القصص والحكايات.
"لن أَحتاجَ لفَانوسٍ سِحري
سأفركُ قَلبي
ثمَّ أضحكُ بصَوتٍ عَالٍ
ليخرجَ المَاردُ من فَمي
مبتَسمًا
لا أُمنيات لديّ
تعالَ معي لنكملَ نوبة الضَّحك الهيستيريَّة
..
لن أحتاجَ لبساطٍ سِحريّ
سجادةُ صلاةِ أُمي
ستَرفعُني عاليًا حَيثُ تخبئُ دعواتِها
سأبقى هناك
أبكي لدَعواتكم البَريئة
وأترك السّجادة تطيرُ وحدَها
..
لن أحتاجَ لكُرةٍ سحريَّة
فعيناكَ تقومَان بالمهمَّة
تَحملان في زجاجِهما
قصصًا ملوَّنة
عن مستقبلٍ جَميل
و أنا أتقنُ قراءةَ بروقِ سمائهما
..
لا أحتاجُ شيئًا مميَّزًا
أريد فقط أن أَبقى كما أَنا
ساحرةً بالفطرة"
بسمة شيخو، شاعرة انتصرت للضوء، فكانت شهقتها شهقته، وشهقته شهقتها. أما طيور الظلام، التي باتت خائفة، فحين يتسع لها عطفُ الشاعرة الاستثنائي، تُضاءُ في الآن ذاته – من حيث لا تَحتسبُ هي – مصابيحُ إضافية، وتلد السماءُ نجومًا جديدة، ورجومًا للشياطين.
..
للتواصل:
[email protected]