صدرت خلال الأشهر القليلة الماضية، مجموعة من الدواوين الشعرية، لأقلام نسوية عربية، بعضها خلال العام 2016. ولعل الخيط "الأوليّ" المشترك، الذي يقود إلى التعاطي مع هذه الأعمال، هو أنها تفتح مجالًا للتحرر، والانزياح خارج السائد الجمالي، والراسخ المجتمعي.
على سبيل المثال، لا الحصر، في ديوانها "كمكان لا يُعَوّل عليه" (منشورات دار "الوطن اليوم"، 2016)، تقترح الشاعرة الجزائرية نوارة لحرش ألعابًا أخرى بديلة عن لعبة الحياة غير مأمونة العواقب، وهي ألعاب خاسرة بالضرورة، لكنها تبدو محاولات لترك أثر ما، قبل تلف كل شيء، في وجودٍ عنوانه الوحيد "العدم". ولأن الحياة ليست لعبة يمكن ضبطها على وضعية الصفر، في حالة الخسارة، وتشغيلها من جديد، فإنها لا تبدو لعبة مُرحَّبًا بها، فلا أحد يتوقع فوزًا، مهما بلغ من مهارة، أو حرص، أو إقدام. تقول:
"كلعبة سريعة التلف
آهلة بالعطب
نعبرها على عجل
نغادرها على عجل
كحشرجة منذورة لتفاصيل العدم
هي الحياة"
تدرك الشاعرة نوارة لحرش أن لعبتها الأكثر قيمة، أو الأجدر بالتجربة، هي لعبة التحرر من أسر الحياة "الضيقة"، وخلق فضاءات بديلة للمعاني أرحب من كُنه الإقامة على هذه الأرض، والتمسّك بما لا يمكن التمسّك به. فسلالم الحياة، بالمعنى النمطي، ليست إلا وهمًا، ولا يقود صعودها إلا إلى هاوية. تقول:
"أتسلق عمري
عثرة عثرة،
وعند تخوم الخدوش،
أسقط متعثرة بخيبة عالية"
إنه "الضيق" الخانق، الذي لا يترك مجالًا لحراك: "كل هذا الأفق ضيق، وهذا الغيم قحل، والشتاء ضيق، والينابيع يباس، وهذي الرياح أرجوحتي، وهذي المواويل أنيني". ولا ملاذ للذات الشاعرة سوى استبطان جوهر جديد، خارج التأويل الاستهلاكي للمعنى. تقول: "في طيات المعنى، ثمة ملاذي".هي شاعرة تحررت بالقصيدة، بقدر ما منحت الحياة فرصة أخيرة، كي تصافح ذاتها الحقيقية، تحت شجر المعاني والكلمات.
وبقطرات من العشق، معسولة ومالحة في آن، مكثفة دائمًا، مسحورة بالضرورة، وببخور روحاني مصّاعد، لا يخلو من رماد الجسد المحترق بغير نار، تحاول الشاعرة المغربية فاطمة الزهراء بنيس استحضار ماردها العاصي، الذي لا يحضر، في طقس من طقوس الجنون الكامل. ولا يظل الصمت بطلًا للمشهد، إذ تتشكل الحروف من تلقاء ذاتها خارج المعنى المألوف.
في ديوانها الرابع "على حافة عمر هارب" (دار البدوي، تونس، 2016)، يبدو البيت العاصم من الفتنة أوهن من خيمة، وأخف من غيمة، فكل النوافذ والأبواب، والحوائط أيضًا، مفتوحة على الريح، تلك التي يحرّكها العشق الجارف، في ملكوت ليس فيه سوى دين واحد، تفصح عنه الشاعرة صراحة في تقديم الديوان، مستحضرة عبارة ابن عربي "أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت ركائبه".
في ديوان فاطمة الزهراء بنيس، ليس تناقضًا استسلام الأنثى لرهافتها المفرطة، وتسلحها في الوقت نفسه ببارود التمرد، الذي تستطيع بواسطته تفجير كل شيء: ذاتها، الرجل، مفردات العالم. تلك معادلة أولية من معادلات القصيدة، إذ يبدو افتتان الفراشة بألوانها غاية كبرى في حياة تلك الفراشة، لكنه لا يُنسيها أنها خُلقت أيضًا من أجل التحليق، والتجاوز، وربما التغريد أحيانًا بصوت طازج، مقطوف من رحيق الشِّعر:
"كفراشة افتتنتْ بفائها
أتبع ألفي
ولا يُتعبني تحليقي/
هو الشعرُ يعصر أعنابهُ
في عينيَّ
يبثّ رحيقه
في جسدي"
هي شاعرة ولدتْ عريانة منها، بحد تعبيرها، لا تريد أن تشبه حوّاء، ولا أن ترضي آدم، الذي لجناحيه لذة الغرق. للإيحاءات المُشمسة تركت ذاتها، فاستدرجتها إلى عَتَه الصبا، حيث اللعب، والركض، والبوح، والضحك، والبكاء، والتلذّذ، والصعود، والسقوط، والموت، والانبعاث، وهكذا يكون الشعر.
وفي ديوانها "شهقة ضوء" ("مركز التفكير الحر"، السعودية)، لا تفقد الشاعرة السورية بسمة شيخو القدرة على الفعل، أي فعل، في حياة عنوانها الوحيد غير القابل للتأويلات هو "الحركة". منمنماتها الشعرية ذاتها يجوز التفاعل معها بوصفها بذورًا خصبة قابلة للنماء، نثرتها يدٌ صغيرة، لم تفقد إيجابيتها وإيمانها بدورها الكبير مع حلول صيحة القيامة.
احتضانُ شيءٍ ضد التلف، هو أقصى ما تتمناه قبضةُ يدٍ تتوقع فناءها في أية لحظة. وأن تتلمس الأصابعُ أو تستشرف ما يمكن تعيينه والاحتفاظ به، هي رحلة غير مأمونة العواقب، صوب المستحيل، إذ يعتري التشكّكُ كلَّ شيء، بدءًا من سلامة الخلايا الحسية، وصولًا إلى فعل الإمساك بحد ذاته.
الظلال السوداء مثلًا، بوصفها مُنتَجًا، هل تدوم قليلًا على الأرض؟ ربما. الفانوس السحري الذي تدعكه الأصابع، هل يتفجر منه مارد يقهقه كغريب ضل طريقه في مأتم جماعي؟ وهل من فانوس أقدم وأقدس من القلب؟ وهل من مارد أبقى من الكلمات؟ وهل من تصالُحٍ مع الذات والعالم إلا في لحظات الغناء؟ تقول الشاعرة بسمة شيخو:
"سأغني
حتَّى نتصالحَ مع الزَّمن
نكفّ عن لَعنِه
ويكفّ عن إتلافِنا"
بسمة شيخو، التي تشفق - ظاهريًّا - على الخفافيش اليتيمة من "شهقةِ ضَوءٍ ابتلعت الظُّلمة"، هي ذاتها التي لا تكتب إلا كي تحرر الضوء المحبوس في الفانوس السحري، لينهض من جديد كمارد أعرق من التاريخ، وأبقى من الخلود. وتسمّي الشاعرة أحد نصوصها "ساحرة بالفطرة"، متكئة بالضرورة على "إن من البيان لسحرًا"، وإن حلت جماليات نص قصيدة النثر محل البيان المشار إليه.
وتطرح الشاعرة التونسية هدى الدغاري، في ديوانها "ما يجعل الحب ساقًا على ساق" (نقوش عربية، تونس)، فضاءً داخليًّا للذات، يتسق مع فضاء خارجي لا سقف له، ولا قرار. الطيران هنا له معنيان، الطيران بالأجنحة، وبالأفكار. ألوان الأجنحة ذاتها تتجاوز الحيّز الضيق لقوس قزح، لتقبض المخيلة على سماء مكتملة، فيما تتسع أدغال الروح لتتمشى فيها غابة إثر غابة.
الشعرية، في تجربة هدى الدغاري، بإمكانها تسليم قرص الشمس تفاحًا، ينضج على وهجها. الإشعاع انطلاق دائم، يفيض حرية وتمردًا وجنونًا. حتى مدارات الجسد، تتسع لما يخرج عن التشهي المألوف، إلى منعطف ينتشي فيه العسل نفسه على خريطة الشفتين المعسولتين.
أما الآخر، الذي ربما يكون الرجل، فتنبني العلاقة معه في تجربة هدى الدغاري على ندية واضحة، وتكامل، بما يطلق العنان لبراحٍ جديد متسع، ناتج من تلاقي واشتباك إرادتين، ليتخلق ربيع لا تتهدده مخاطر الذبول.
المشاركة، والإقدام، والإيجابية، والمبادرة، من ملامح تفاعل الذات الأنثوية مع الأخرى الذكورية، فالحب ليس ساقًا واحدة، بل هو ساق على ساق، وفراشات الفرح إن لم يكن لها وجود في الكون، فبالإمكان تخليقها، في لحظة يرتوي فيها النهر. هنا، الانطلاق يخلق وجودًا بأكمله، تقول:
"نهري عطشان،
لانسياب الكوب على شفتيكَ،
لفراشات فرح،
يطوّقن خصري"
..
للتواصل:
[email protected]