Close ad

تساؤلات الوجود في المجموعة القصصية "العابرون"

7-11-2016 | 15:12
تساؤلات الوجود في المجموعة القصصية العابرونالعابرون
أمل الراغب
إلى أين نعبرُ؟ وأين يكون الخلاص؟ وأين يوجد العدل؟ أسئلة تحمل هم الوجودية تطرحها الكاتبة "ناتالي الخوري غريب" في مجموعتها القصصيّة "العابرون" الصادرة عن دار الابداع – لبنان.
موضوعات مقترحة


تشكل هذه المجموعة، سفينة عبور إلى المقلب الآخر من فكر الكاتبة وفلسفتها، الذي تجلَّى جزءٌ كبيرٌ منه في روايتيّها السابقتين "حين تعشق العقول" و"هجرة الآلهة والمدائن المجنونة"، لكننا نرها هنا بأسلوب فلسفي أكثر تكثيفا في القصة. تُشكِّل كلُّ قصة في هذا الكتاب عالمًا منفردًا لا يشبه الآخر، كذلك بعضها لا يشبه الواقع المعاش، إذ يخيّل إلى القارئ أنه أنفصل عن الحقيقة ليذهب بفكره إلى عالمٍ خياليّ حالم، لكن الهدف المنشود من هذه القصص يصب في المنحى عينه للأسئلة المطروحة والأجوبة المرجوّة عينها. وقد كان اختيار الترتيب للقصص موفقا جدا، فهي تبدأ بابتسامة في القصة الأولى لتنتهي بدمعة في القصة الأخيرة، لا يستطيع القارئ إلا أن يتأثر بما يقرأ من أحداث تحرّك المشاعر بشكل مباشر ومن دون استئذان.

توصيفي لها بأنّها سفينة لم يأتِ فقط ليظهر هدف العبور، لأن السفينة تحمل في جنباتها ما يفوق وزنها بكثير، كذلك هذه المجموعة المؤلفة من خمس قصص قصيرة في خمس وتسعين صفحة فقط، حملت في ثناياها ما يفوق حجم هذا الكتاب البسيط نسبيا، الغني بالفكر والحكمة والرؤية المتفرّدة، فأتى دسمًا جدًا لا يحتمل المزيد.

بأبجدية راقية حضرت الشاعريةُ المرهفة في هذه القصص بشكل واضحٍ جدًا لتلمس مشاعر القارئ وتعيده الى أجواء الرومانسية المغيّبة، والحكمة فرضت وجودها كركنٍ أساسيٍ لكل قصة، أما الفلسفة فكانت هي العنصر الأول الذي تفرعت منه جميع العناصر الأخرى، فتكاد لا توجد فقرة لم تتغلغل فيها لتضع بصمتها عليها.

يبدأ الكتاب بقصة "الغريبان" التي أعتبرها من أجمل اقاصيص هذه المجموعة، وقد حاولت فيها الكاتبة كشف حقيقة التطرّف والعنصريّة والانحياز الى مكان دون مكان، برومانسية أخّاذة جعلت الحب ينتصر أخيرًا على هدم كل الحواجز التي صنعها البشر لأنفسهم ليبنوا في ما بينهم عوائق لم يضعها الله لهم، بل خلقهم سواسية في كل شيء،"لم تصدق عينيها، عرفت أنّ السرّ في الغاء السّياج، وأنّه من صنع أوهام البشر" ص 24.

يليها "جبل الأماني" القصة التي حاكتها بخيوط الخيال والواقع في آن واحد لتبدأها بصورة يظن المرء للحظة أنه يعيش في زمن الاساطير، يعود ليحطّ على أرض الواقع حيث الناس تعيش على طيبتها، حيث تنذر النذور وتطلب الأماني، ومن جهة أخرى عصابات سرقة الأعضاء البشرية ومآسي عوائل تبدأ على أيديهم، الطمع، الجشع، كلها أمور عالجتها بطريقتها الحكيمة وقد برعت في دمج هذين العالمين المختلفين كليًّا عن بعضهما، "قررت أن تكتب نهاية أخرى. صعدت إلى جبل الأماني، أخرجت فأسا من حقيبتها، بدأت تقطع الشجرة بعد أن قطّعت أغصانها غصنا غصنا، وطارت الأماني المعلقة فيها جميعا"ص 38.

مرورًا بقصة "كتاب الناسك" التي يلفّها الغموضُ بشكل كبير كالقصص البوليسية ولكن باسلوب رومانسي وفلسفي وتنتهي بشكل صادم غير متوقع، تعالج فيها مسألة التديّن بشكل مبطن، عبر تساؤل البطل عن "الكتاب" وطريقة فهمه وقراءته، البحث عن المجهول والوقوع في فخ البحث عبر طرق خاطئة، لم تفصح عن دين معين بل عنت به كل دين وطائفة، أرادت القول أن البعض يعيش عمره يبحث عن الحقيقة ولا يجدها، لأنه يبحث في المكان الخاطئ." كان يعلم بأن الأسرار ستكشف له حين يجد من يقرأ الكتاب.

الكتاب عصيّ على الفهم لأن كلماته كتبت بلغة غير مفهومة. تعود إلى حضارة بعيدة. وأنّ ثمة ناسكا واحدا فقط، تفتح له مغاليق المجهول"ص53، وصولًا إلى قصة "قوارب الموت" وهي الأكثر واقعية كما يُظهر عنوانها، فهي تحاكي قصة الهجرة عبر البحر والموت فيه، ولكنها تعود إلى ما قبل الثورة لتضيء على بعض الأمور التي كانت وقودها." كلهم يعلمون أنّهم يركبون الموت عبر البحر، وليس جسرا من أمل.. الموجودون جميعا، كانوا يغرقون في متاعب الحياة وظلامها وهم الذين اضطروا، إلى أن يقبّلوا أيدي ظالميهم".ص79.

ثم تكون القصة الأخيرة "عودة الابنة الضالة"، هذه القصة التي يغمرها الحزن بكل ما فيها منذ البداية، فهي تعالج بالشكل الظاهر قضية الإعاقة ونظرة الأهل إلى ذويهم من أصحاب الاحتياجات الخاصة، ولكنها ضمنا تبحث عن الايمان الكامن في قلوب البشر، وعن العدل على الأرض، في هذه القصة يوجد الكم الأكبر من التساؤلات الجريئة التي ممكن أن يطرحها المرء على نفسه أولا قبل الآخرين، ورغم الاسئلة الجدلية الكثيرة المطروحة في هذا النص، إلا انها أرادت أن تنهيها بالعودة إلى الإيمان، وأبدت فكرتها بوضوح، أننا مهما تمرّدنا، سنعود الى الدّرب الذي تربيّنا عليه."ورحبت بعودتها عدالة السماء، بعد أن عاشت الانسلاخ بحثا عن العدالتين، وقد عرفت أنّها عبثا تبحث عن الأولى بمنطق السماء، وعن الثانية بإيمان أهل الأرض. وحده الحب يقين، يقي من الشكّ والتساؤلات" ص94.

هي مجموعة قصصيّة تحفر اسم كاتبتها على لائحة كتّاب القصة القصيرة، بعدما سجّلته بين اسماء الروائيين والباحثين. ويبقى الحبّ والحريّة، هما زاد الكاتبة وقوتها في جميع أعمالها. ((في ثنايا التراب حكايا إثمار عتيقة، وفي خبايا المناسك أصوات صلوات منسيّة. وحده عطر البخور الطالع من مجامر الحبّ يبوح بسرّ الخلود، وعلى الصخر يبني مسكنه، مبشّرًا برسالة الأرض على أنّها حبّ وحريّة)). ((الحبّ والحريّة حبيبان سرمديّان تجمعهما علاقة اكتمال، فالحبّ من دون حريّة أسر في ضلوع الامتلاك تحت أستار الالتزامات وأفخاخ الحماية، والحريّة من دون حبّ، تفلّت في فوضى الاستباحات)) ص. 55.
--------
أمل الراغب
(كاتبة من لبنان)
اقرأ ايضا: