يبدو أن الدول الإفريقية قد أدركت "أخيرا" الأهمية الإستراتيجية لنهر النيل، ليس فقط كمركز للصراعات الإقليمية بين الدول، أو في التناحر على كميات المياه "الربانية" التي شكلت مجراه، وإنما في استخدامه كوسيلة للترابط والتبادل التجاري.
موضوعات مقترحة
ولعل مشروع الربط الملاحي بين بحيرة فيكتوريا والبحر المتوسط يعالج الفرقة والانقسام بين الدول الإفريقية، ويضع حلا لما لم تستطع الرؤى السياسية تحقيقه على أرض الواقع، بما يخدم مصالح دول حوض النيل جميعها.
وضعت نواة المشروع في عام 2013، بين الحكومة المصرية بالتعاون مع مبادرة الشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا "NEPAD"، على إنشاء خط ملاحي يربط بين بحيرة فيكتوريا في جنوب القارة السمراء، والبحر المتوسط في شمالها عبر نهر النيل، وأُعلن رسميًا عن تبنى "NEPAD" للمشروع في القمة الإفريقية التي عقدت في يناير 2013 في إثيوبيا، وقيام مصر بدور الريادة في هذا المشروع.
يمثل المشروع أحد أهم المشروعات التنموية الهامة، وركيزة من ركائز التكامل مع دول حوض النيل، وخطوة فعالة نحو تفعيل آليات التعاون، وترجمتها على أرض الواقع، نظرا لمشاركة دول حوض النيل العشرة في الاستفادة من هذا المشروع.
مبادرة تنفيذ المشروع ليست مصرية إطلاقا، ولكن أخذت مصر على عاتقها إعداد دراسات الجدوى الخاصة به، لما له من عائد ملموس على العلاقات المصرية الإفريقية، إلا أن تنفيذ هذا المشروع الضخم يتطلب معالجات هندسية لجميع المنشآت المائية الموجودة على مجرى النيل من بحيرة فيكتوريا وحتى البحر المتوسط؛ لتيسير عبور السفن.
اللجنة الإفريقية التوجيهية للمشروع انتهت من الموافقة على دراسات ما قبل الجدوى التي نفذتها مصر، وكلفت مصر بعمل دراسات الجدوى بعد تخصيص بنك التنمية الإفريقي منحة قدرها 750 ألف يورو، للمرحلة الأولى من دراسات الجدوى، والانتهاء منها خلال عامين، بما يعكس ثقة الدول الإفريقية بالمشروع، وفي دور مصر المحوري لتنفيذه.
ومن المنتظر، أن يساهم المشروع في ازدهار منطقة "حوض النيل"، ورفع معدلات التنمية وخفض نسب الفقر بين شعوبها، وستتضاعف هذه الفوائد والمميزات بالنسبة للدول الحبيسة بالحوض، مثل (جنوب السودان - رواندا – بوروندي – أوغندا)، التي يعتمد ارتباطها بالعالم الخارجي على الطرق البرية.
وفي هذا الصدد، يقول الدكتور محمد عبدالعاطي، وزير الموارد المائية والري، في تصريح خاص لـ "بوابة الأهرام"، إن المشروع هو محور للتنمية الشاملة، وليس مجرد ممرا ملاحيا تجاريا تقليديا، لافتا أن المشروع يتضمن طريقًا سريعًا، ومد "كابل" بيانات بين الدول المشاركة، وخطوطًا للربط الكهربائي، وأخرى للسكك الحديدية.
وأضاف وزير الري، أن المشروع يتم تنفيذه على المدى الطويل، وحتى الآن لم تنتهِ مرحلة الدراسات للحكم عليه أو التشكيك فيه، مشيرًا إلى أن رئيس لجنة الزراعة بالبرلمان الأوغندي، أوضح له خلال لقائه به، أن الطريق المستهدف لتنفيذ المشروع مازال موجودا، وقد استخدمه المصريون قديما في التبادل التجاري مع أوغندا، ويعرفه المحليون هناك جيدا.
تنفيذ المشروع يعيد للذاكرة وسائل النقل القديمة التي ربطت مصر بدول حوض النيل وفي القارة الإفريقية، فهذه رحلات الملكة حتشبسوت التي كانت توفدها إلى بلاد بونت بشرق إفريقيا، لجلب البخور عبر البحر الأحمر، وكانت تنطلق القوافل التجارية من سيوه وأسوان ودراو عبر الدروب الصحراوية إلى السودان، إلا أن وسائل الترابط المائي القديمة كانت تواجه مشكلة شلالات النهر، التي كانت تمنع السفن من اجتيازها.
وبعد مرور ما يربو على 20 قرنا على رحلات "حتشبسوت"، لا تزال الشلالات أحد التخوفات التي تراود عدد من المتخصصين، وجعلتهم يشككون في نجاح تنفيذ المشروع، ويرون استحالة تغلب المشروع على ظروف الطبيعة، وصعوبة تطويع طوبوغرافية مجرى النهر بطول حوض النيل، لتتناسب مع أحلام وأهداف المشروع.
وبحسب دراسة أعدها الدكتور هيثم عوض، رئيس قسم الري والهيدروليكا الأسبق بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية، أكد خلالها أن المشروع بالغ الصعوبة في التنفيذ تصل للمستحيل، لوجود منشآت عملاقة كالسدود والقناطر على النيل فضلا عن الشلالات.
وقال عوض لـ "بوابة الأهرام"، إن الدراسة التحليلية لهذا المشروع قد أجراها منذ عامين تقريبا، إلا أنه مازال عند رأيه، وأنه لم يظهر ما يغير وجهة نظره أو الأرقام التي استنتجها في دراسته، مشيرا إلى أن المجرى النهري قائم فعليا، إلا أنه يعمل من خلال فرع "دمياط" فقط، ويعاني فرع "رشيد" من انخفاض منسوب"الغاطس" اللازم لسير السفن، كما أن هويس خزان أسوان يوجد به فارق توازن يصل إلى 30 مترا، ويحتاج إلى إعادة التأهيل لتوقفه منذ عام 1961.
ولفت "عوض"، إلى وجود فارق توازن بين منسوبي المياه عند السد العالي، يتراوح بين 182 مترا إلى 108 أمتار، مؤكدا أن هذا العائق يحتاج إلى عمل هندسي عملاق لمعالجته، فضلا عن مُعضلة تسيير السفن بالسودان، عند منطقة خزان مروي، لوجود 4 "جنادل" على النيل الرئيسي في السودان عند مناطق ( دال - الشبلوقة - الشريك –كجبار)، و6 شلالات في شمال أوغندا، وخزان أوين على بحيرة فيكتوريا.
التشكيك في القدرة على التنفيذ بسبب التخوفات، أمر رفضته وزارة الموارد المائية والري، وأكدت أن لكل مشكلة حل هندسي، وإذا استلزم الأمر، سيتم وضع عدد من الحلول بخلاف الحل الهندسي، للتغلب على المعوقات والصعوبات.
إلا أن الأمر لا يتوقف على إعادة تشكيل طبوغرافية النهر فقط، ولكن التخوفات تمتد لتشمل الحروب العرقية، والصراعات القبلية، والاختلافات السياسية، في كثير من دول حوض النيل، بما ينذر بعدم استتباب الأمن، وبما يهدد معه أمان المشروع، ووصول التجارة البينية إلى وجهتها سالمة.
ومن جانبه، أوضح الدكتور نادر المصري، رئيس الوحدة المشرفة على دراسات الممر الملاحي، أن المشروع يأتي ضمن المبادرة الرئاسية لتنمية البنية التحتية بعدد من الدول الإفريقية، وهو ضمن 10 مشروعات عملاقة سيتم تنفيذها إفريقيا، للنهوض وتطوير البنية التحتية إقليميا للدول المشاركة به.
وقال المصري، في تصريحات خاصة لـ "بوابة الأهرام": إن كل مشروع من المشروعات الـ 10 العملاقة، يرعاه رئيس دولة إفريقية، لافتا أن مشروع الممر الملاحي يُنفذ تحت رعاية الرئيس عبدالفتاح السيسي، مما يجعل مصر ليست ملتزمة أمام نفسها فقط بالتنفيذ، ولكن أمام الدول الإفريقية كذلك.
وأكد أن أي مشروع له عوائق لا يمكن إنكارها، ومشروع إقليمي إفريقي عملاق كهذا؛ بالطبع سيواجه تنفيذه كثير من العوائق، منها على سبيل المثال لا الحصر، الشلالات الموجودة على طول مجرى نهر النيل، وعدد من القناطر والسدود، علاوة على وجود مناطق بها ميول حادة غير مناسبة لسير السفن.
ولفت "المصري"، إلى أنه رغم وجود هذه العوائق، إلا أن علاجها ليس مستحيلا، فعائق وجود السد العالي مثلا هناك أفكار لعمل قناة جانبية لتخطي السفن حاجز وجود السد على مجرى النهر، وهو الحل المطروح للتغلب على عوائق الشلالات أو القناطر، لافتا إلى أن كل عائق له دراسة جدوى؛ لحساب تكلفة التغلب عليه، في ضوء حجم الملاحة المتوقعة لعبور المجرى يوميا.
وأشار إلى أن التكلفة ليست بالقليلة أو الهينة، وتتراوح مبدئيا بين 10 – 12 مليارات دولار، موضحا أن مصر لن تتحمل وحدها هذه التكلفة الضخمة، ولكن هناك إستراتيجية تم إعدادها لتوفير التمويل اللازم للمشروع، وستشارك فيه جهات دولية، ومنظمات عالمية، وجهات مانحة أخرى.
وأكد رئيس الوحدة المشرفة على دراسات الممر الملاحي، أن دراسات ما قبل الجدوى أثبتت وجود جدوى اقتصادية للمشروع، وأنه لو كان المشروع نوعا من الوهم، ما كانت الدول الإفريقية تطالب بالمشاركة فيه، وعلى سبيل المثال، طالبت رواندا رسميا أن يكون نهر "الكاجيرا" جزء من المشروع، ورغم استثناء إثيوبيا من المشروع بسبب الميول العنيفة للنيل الأزرق غير المناسبة لحركة السفن، إلا أنها طالبت في الاجتماع الأخير لـ"الكوميسا" في فبراير الماضي؛ المشاركة بالمشروع من خلال نهر "البارو" بدلا من النيل الأزرق.
وقال، إن الاضطرابات السياسية والصراعات القبلية المشتعلة بجنوب السودان حاليا، قد تمثل تهديدا لتوقف المشروع، مؤكدا أن مصر ليست ملتزمة بحماية المشروع في الدول الإفريقية المشاركة، ولكن هو التزام من كل دولة بحماية المشروع داخل أراضيها، مشيرا إلى أن فرص العمل التي سيتيحها المشروع، والتنمية التي ستجني ثمارها الدول الإفريقية قادرة على نبذ الخلاف، والدفاع عن مثل هذه المشروعات العملاقة ضد ما يعوق تقدم مسيرتها.
ولفت "المصري"، إلى أن عوامل توفير أمن المشروع وأمان رحلات التجارة البينية تم وضعه في الاعتبار عند إجراء دراسات ما قبل الجدوى، ويشغل حيزا كبيرا من دراسات الجدوى، منوها أن الشركة الألمانية التي تم اختيارها "مبدئيا" لتنفيذ الدراسات القانونية والفنية والمؤسسية، تضع في اعتبارها كل التخوفات والمخاطر على مائدة تخطيطها، مشيرا إلى أن استمرارية المشروع تعتمد على التمويل، ومنوها بأنه من المتوقع أن يعمل بكامل طاقته بحلول عام 2024.
ورغم التخوفات يبقى الأمل، ورغم الفرقة والانقسام يظهر بصيص من النور، يعيد الترابط بين أبناء القارة السمراء، بعد ما فرقتهم الحروب، وبني بينهم الأعداء جبال من الثلوج، قد يذيبها مشروع اعتمد في أساسه على "إعادة المياه إلى مجاريها." !!