لم أكد أصدق أذني أمام شاشة التلفزيون عندما كنت أتابع برنامجا يستضيف الدكتور وسيم السيسي الذي تستهوينى أحاديثه عن الحضارة المصرية وهو يتحدث عن تدنى الذوق العام، وهو ما لم أجادل فيه كثيرا ولا قليلا.
لكن الذي أذهلنى عندما وجدته يتحدث باحتقار شديد معلقا على أغنية شعبية هزلية وهو يسخر بمتهى القسوة أنه "أكيد أن مؤلف هذه الأغنية "سمكري".
فإذا قبلنا هذا من إنسان "متثاقف" ومدع، فلا يمكن أن أقبله من رجل علم وأدب وحكمة بقيمة الدكتور وسيم السيسي".
فهو قد استسلم لمشاعر التعالى النخبوي تجاه فئات وطبقات الشعب المصري الذي يعشق الدكتور وسيم تاريخه!.
فمالهم السمكرية يادكتور وسيم؟!.
ماذا جنوا بأنهم امتهنوا مهنة شريفة لا يستغنى عنها أحد مثل أي مهنة أخرى من المهن التى لا تروق لمثل الدكتور وسيم؟!.
ما الذي احتقرته في مهنتهم يا دكتور؟
ولكن للأسف هذا الذي قاله الدكتور وسيم السيسي يجسد موقف النخبة المصرية في العقدين الأخيرين تجاه المهن التقليدية مثل الفلاحين والزبالين والسباكين والميكانيكية والبوابين أو ما نطلق عليهم "الصنايعية" وهي مهن ترانا نحن المصريين أنفسنا نتشاتم بها ونغلوا في الاحتقار إن كان في أسلاف أحدنا أو أقاربه من يعمل بها يراى ذلك عارا دونه أى عار.
بل إنى أرى أن التعاطف "الكاذب" الذي تبديه هذه النخبة المتعالية ليس إلا صورة من صور هذا الاحتقار، فكأن الانتساب أو العمل عمل يستحق التعاطف وكأنهم "مرضى" لا برء لحالهم!.
لولا هؤلاء يادكتور لما أصبجت أنت في مكانك، فلولا الزبال والسمكري والبواب والسباك، لما استمتعت أنت برفاهية عملك ولا نفعتك "دكتوراتك" في شيء.
والأغنية التى يحلو للنخبة النظيفة "بنت الناس الهاي" هي أغنية "كوز المحبة اتخرم إدلة بنطة لحام" وليت الدكتور الطبيب العالمي المهتم بالتاريخ يكشف لنا عن هذه الأغنية التى لا نسمعها إلا كلمات بلا لحن كنوع من السخرية من الذوق الهابط، مع أنى أرى في هذه الأغنية مجهولة المطرب والملحن والمؤلف والتى لم أسمعها من أحد رغم شهرتها مطلعها منذ عشرات السنيين" أرى فيها السخرية العميقة من تهافت المشاعر العاطفية وسخافة كلمات بقية الأغانى وهي كلمات سخر بها المصري البسيط من فيض الأغانى عن الحب والهجر ولنكد الأزلى.
أزيدك الطينة بلة يا أبا الدكاترة، عندما أقول لك: "إن فيه معنى جميلا لكن لا يدركه من يصدرون لنا التكشيرة النخبوية ويتعاظمون علينا بتجاعيد جباههم.
أليس مثل هذا السمكري ومن هم "من عينته" يا دكتور وسيم هو من ساهم في صنع هذا المجد الذي تفخر به ليلا ونهارا، أليسوا هم عصب حياتنا وحاملو الشفرة الوراثية التاريخية لمصر والمصريين؟.
إنها التناقضات المحزنة والمخزية التى تزحم وتزخم عقول المصريين اليوم، فقد هانت علينا نفوسنا ونحن في هذا "العراك الأكبر" الذي لم ينج منه أحد ولو نجا منها لكان حري بك أن تكون أنت الناجي.
لكن لا ألوم عليك فقد دأبنا جميعا منذ فترة أنت تعرفها جيدا "علشان مانزعلش بعض" على تحقر ونبذ والازدراء بأنفسنا في موجة جنون حقيقي سادت أرض الكنانة وأدلى كل من فيها بنصيب".
مازالت المرارة طافحة وأنا مغلول منك غل!.
اعذرنى فقد نقح على "العرق المصري" وما آليته على نفسي من التصدي لأي احتقار "في غير محله" لأي من أولاد مصر وخدها كلمة من مصري مثلك: "تذكر دائما يا دكتور وسيم، أن الفشل كإنسان هو عين الفشل فقد ترى سمكريا ناجحا لا يعرفه أحد وقد ترى عالما فاشلا يشيع ذكره في الآفاق وهو أفشل الفاشلين.