مما لا شك فيه، أن الفضاء الإلكتروني أتاح للنص الأدبي، الشعري على وجه التحديد، سيولة لم تتوفر له من قبل، وفتحت الثورة الرقمية نوافذ للنشر تفوق عدد الشعراء أنفسهم، الأمر الذي يؤكد أن "ندرة الجوهر الشعري"، إذا تم الاعتراف بها كظاهرة، إنما هي تتعلق بالمنتج الإبداعي ذاته، وحده دون غيره.
موضوعات مقترحة
في عهود سابقة، سادت مقولات زائفة، تدعي أن "تراجع الشعر العربي"، وفق تلك المقولات، مرهون بوسائط انتقائية، وبوابات سلطوية، ونخب انتقادية وتحكيمية، تمارس لعبة التمرير والحجب، والإجازة والمنع، فضلًا عن عوامل أخرى تتصل بطبيعة الجمهور أو ذائقة المتلقي، بالإضافة إلى آليات الطباعة والتسويق، وغيرها، كأنما هناك مؤامرة مكتملة الأركان لمحاصرة الشعر، فن العربية الأول، وإقصاء الشعراء المجيدين خارج "البرواز"!
لم يعد هناك مجال للاستمرار في اجترار افتراضات باهتة من هذا القبيل، فالحقيقة العارية أن الجوهر الشعري نفسه، المشع بذاته، أو المعدن الأصيل في صورته الخام المجردة، هو الذي يعاني الاضمحلال، أو الانزواء في خانة التخصص، تحت شجرة هامسة هادئة، وسط فيضان شعري زاعق، أو يدعي الشعرية، يحدث ذلك، رغم أن اللحظة الآنية تبدو مناسبة تمامًا، لعودة القصيدة الحيوية، أو ميلادها بصورتها النقية، بل لعلها اللحظة التاريخية الأكثر مثالية منذ سنوات بعيدة، بعد أن انهارت الوسائط التقليدية لتوصيل النص، وانقاد النقاد والوسطاء الانتفاعيون إلى مكان بارد في الذاكرة، معلنين إفلاسهم، وعدم قدرتهم على التمرير والمنع في عصر الرقمية والفضاءات المفتوحة.
لا أحد يمكنه أن ينكر أن المجال صار متاحًا ليقول الشاعر ما يشاء، وقتما يشاء، بالطريقة التي يشاء، وأن النشر الإلكتروني عبر الإنترنت، في صفحات موقعه الشخصي أو مدونته أو في المواقع والصحف الإلكترونية ذائعة الصيت، قد أعفى هذا الشاعر من كثير جدًّا من البوابات السلطوية والنخبوية والرقابية التقليدية، ومكنه من النشر بسهولة، بل إنه أحيانًا يمتلك حق تنسيق وتثبيت قصيدته بيده في هذه الصحيفة أو ذلك الموقع، والإعلان عنها في الصفحة الرئيسية، ومنطقي أن يختار الشاعر لكتابته الجديدة هذه وعاء لغويًّا حيًّا، سهلاً، حيث إن التواءات المجاز تعوق كثيرًا سيولة "التداول الشعري"، الذي يحلم به.
كل شيء بيدِ الشاعر، لا بيد عمرو، فهو عصر الفرص المتاحة حقًّا، عصر العدالة الافتراضية المتحققة بقدر مقبول جدًّا، فالعلاقة صارت مباشرة بين الشاعر وبين الجمهور في الفضاء الرقمي، وتقلصت مسئولية مؤسسات الدولة، بل كل المؤسسات. الشاعر الآن لا ينتظر إقرارًا من أحد، ولا توقيعًا على مخطوط ديوانه، كي يكون.
النشر الورقي ذاته، على الجانب الآخر، يبدو وقد تأثر كثيرًا بهذه الثورة الرقمية، فهناك تسهيلات قدمتها دور النشر الخاصة، في السنوات الأخيرة، للشعراء والأدباء الراغبين في النشر لديها، ولن تقف مساهمة مادية غير مبالغ فيها من الأديب في تكلفة نشر كتابه عائقًا أمام طموحه في الوجود والتحقق، خصوصًا أن الكتابة صناعة في الأساس، وأنه إن حقق كتابه رواجًا تسويقيًّا، فسوف ينتفع هو ماديًّا، بالقدر الذي ينتفع به الناشر.
العصر الذي نحياه، هو عصر الرقمية بامتياز، ولن تغيب تأثيرات وانعكاسات هذه "الرقمية"، كنمط حياة، عما يكتبه الشاعر الحقيقي اليوم، وإلا فإنه يكتب عن عصر آخر، ويعيش حياة أخرى، فوق كوكب آخر.
النشر الإلكتروني للشعر هو أحد، وليس كل، وجوه الاجتياح الرقمي للشاعر، لكن الأهم من اختيار الشاعر للرقمية كوعاء جديد للنشر، أن يكون ما في الوعاء جديدًا، معبرًا عن معاناة الإنسان في العصر الرقمي الخانق. تلك هي ملامح الرقمية في التعبير، وليس في آلية النشر.
ولأن "حياة الشعر" مستندة في الأساس إلى كونه "شعر حياة"، فإنه بقدرة النص الحيوي على النبض الطبيعي والحركة الحرة، بدون أجهزة إعاشة وأسطوانات أوكسجين وأطراف صناعية، تُقاس عافيته وخصوبته، ويتحدد عمره الحقيقي، ويمتد عمره الافتراضي خارج أسوار المكان وحدود الزمان.
إن من يرون أن الشعر لم يعد خبزًا للقراء، ويلقون باللوم على القوى الخارجية القاهرة، والشروط والعوامل الثانوية، عليهم أن يحاكموا النص الشعري بقسوة أولًا، متسائلين: إلى أي مدى تمكن الشاعر من أن يلغي المسافة بينه وبين نفسه، وبالتالي أذاب المسافة بينه وبين قارئه؟
لن تخترق قصيدة الحدود إلا بقوتها الذاتية، وبجناحيها الشعريين، بدون دعم خارجي. وإن حضور القارئ، بل حلوله، في الماهية الإبداعية الملغزة، هو وضع طبيعي يعكس انفتاح المبدع كإنسان على أخيه الإنسان، ويعكس انفتاح الكتابة الإبداعية الجديدة على العالم الحسي المشترك، والوقائع والعلاقات المتبادلة، وأيضًا على الأحلام والهواجس والافتراضات والفضاء التخيّلي غير المقتصر على فئة نخبوية من البشر دون سواها. هكذا يكون الشاعر صوت نفسه بالضرورة، وصوت صديقه القارئ، في كل مكان، خصوصًا أن هموم البشر الملحة صارت تتعلق أكثر بمصيرهم المشترك، بوجودهم ذاته، وليس بقضاياهم الإقليمية المتضائلة.
وفي الختام، فقط يتحرر الجوهر الشعري من الأطر النمطية، ويثور على التنظيرات المتكلسة المتوقعة، عندما تتقلص وتندثر معاني القصد والحشد الذهني ومغازلة الذوق المعلب والأكفّ المعدة سلفًا للتصفيق، وفقط القصيدة لا تخون المواعيد أبدًا، عندما تكون، ببساطة، هي المواعيد كلها.
للتواصل:
[email protected]