لا يخلو ميدان الثقافة، شأنه شأن سائر الميادين، من منازلات ومبارزات، فالمعارك والسجالات الفكرية والأدبية حاضرة في كافة البيئات والمناخات، على امتداد الزمان والمكان، فهي لازمة من لوازم الكتابة، وشأن من شئون التفاعل الطبيعي بين أصحاب الرؤى وحملة الأقلام.
موضوعات مقترحة
ما يختلف، ربما، بين عصر وآخر، ومكان وغيره، طبيعة تلك المعارك والسجالات، ففي المناخات الثقافية الجادة والزاخمة تتمحور تلك المعارك حول قضايا مصيرية وجوهرية، وأطروحات متعمقة، وتنصب حول ما هو موضوعي، وتنأى لغتها النبيلة عن التراشق والإسفاف.
من هذه النوعية، مثلاً، معركة "مصر للمصريين"، التي خاضها أحمد لطفي السيد في مطلع القرن العشرين، ومساجلات العقاد وطه حسين، ومعركة شعراء مدرسة الديوان وأحمد شوقي، ومعركة الشعر الحر والشعر التقليدي، وغيرها. فهي، وإن لم تخل أحيانًا من انحياز أو إغراض، كانت معارك تليق بجلال الكلمة.
والعكس في مناخات البلادة والتكاسل، إذ تدور المعارك والسجالات حول أمور هامشية ومجالات ثانوية، وتنشغل بما هو ذاتي، وتمتلئ لغتها بمغالطات واتهامات بغير أسانيد، فضلًا عما قد يعتريها من نفي للآخر، وربما بذاءات.
عوامل أخرى تؤثر على طبيعة تلك المعارك الأدبية، منها مثلًا سيولة وسهولة أوعية النشر في العصر الراهن، عصر الإنترنت، إذ احتلت "السرقات الأدبية" مجالًا واسع النطاق من مجالات اهتمام المعارك الأدبية، وهي معارك ذاتية وصغيرة أيضًا بطبيعة الحال.
على جانب آخر، تنشغل وسائل الإعلام، أكثر ما تنشغل، بما هو لحظي، وانتفاعي، ومن ثم فالمعارك التي تحتل مكانًا أبرز من تكثيف الضوء حولها في الوقت الراهن، هي تلك المتعلقة بأمور برّاقة، كالجوائز الأدبية مثلًا، ومصادرات بعض الأعمال، والكتابات الفجة التي تتمسح بكسر التابو، ومقاعد موظفي ولجان الكيانات الثقافية والأدبية في عالمنا العربي، كوزارات الثقافة وهيئاتها، واتحادات الكتاب، والمشاركات في المحافل الدولية، وما نحو ذلك من خلافات تُصدّرها وسائل الإعلام بوصفها معارك الساحة الثقافية.
مع ذلك، تبدو للمختص في المشهد الثقافي الراهن معارك ثقافية وفكرية من العيار الثقيل، والطبيعة الجادة، لكنها قد لا تأخذ مداها اللائق من البزوغ، كونها لا تشغل العامة بقدر وقوعها في دائرة التخصص.
منها، على سبيل المثال، السجال الدائر حول العلاقة بين "الثقافي" و"السياسي" (أدونيس نموذجًا)، والخلاف بين أبجديات النقد المشرقي والمغاربي في العالم العربي، وما يثار حول آليات تجديد الخطابين: الثقافي والديني، وغيرها.
إن مبارزات، ومناحرات، الساحة الثقافية حاضرة دائمًا، على أن الفرق يبقى كبيرًا، بين الصوت الحقيقي، الذي يدافع عن فكرة أو قيمة، وبين التشويش.
للتواصل:
[email protected]