Close ad

مروة الطوبجي تكتب: بلا روح

16-9-2021 | 18:35
نصف الدنيا نقلاً عن

أغلقت النوافذ والأبواب كلها، وأسدلت الستائر الثقيلة ملقية بالظلام على حياتها، وألقت بنفسها على الكنبة العتيقة متكورة على نفسها، مستحضرة لحظات سفره المفاجئ، لم تتمالك دموعها وهى تتذكر سنواته الأولى، كان رجلا صغيرا له نظرة قوية يشوبها الحزن، وابتسامة رزينة، لم يكن ككل الأطفال، نضج مبكرا وحمل بداخله روح مقاتل، كانت تراه رجلها الذى يحميها، وملاكها الحارس عندما يحنو عليها ويمسح دموعها، فرحت بتفوقه وذكائه وتَدَيُّنه الفطرى، و(جدعنته) مع أصحابه.

لمست فيه النبوغ وتمنت له مستقبلا باهرا، كان يحمل لها صينية الطعام وهو فى السابعة، عندما تعود مرهقة من العمل، فلا يتركها بلا أكل، وبطفولة يضع لها الفاكهة والبونبون والخبز واللبن لتأكل ماما، عشقت حنانه وشعوره بالمسئولية تجاهها، كان هو العاقل فى البيت وكلهم مجانين، وعندما كبر والتحق بكلية الهندسة، واختاروه لتفوقه معيد جونيار فرحت كثيرا، وحلمت بأن تراه أستاذا فى الجامعه، وبخاصة لحب أساتذته له واشتهاره بالأخلاق والاحترام، حتى إن المعيدة المسئولة عن مشروعه قالت لها إنهم فى الجامعة يقولون "تسلم الأم اللى ربته".

وكان لذلك وقع فاق كل ما كانت تتوقعه من انتصار، فهى ضحَّت واحتملت ما لا يحتمله بشر حتى ربت الولدين، وكانت أُمًّا حتى النخاع، تكرس كل لحظة فى حياتها من أجلهما تحملهما معها تحت جلدها، تستيقظ ليلا لتتأكد أنهما يتنفسان، وهما كانا مقدِّرَين، وثلاثتهم كانوا روحا واحدة، ورغم ارتباطها وتَعلُّقها بولديها، كانت تعلم أنها "الخايبة التى تُربِّى للغايبة"، وأن اليوم سيأتى لينفصلا عنها ويتزوجا ويرحلا إلى بيت آخر، ولم لا؟ ما داما سيحملان إليها الأحفاد، فكم تشتاق لأن تكون جدة، ولكن أن يرحلا إلى بلد آخر، ويكون بينها وبينهما بلاد تقطعها الطائرة فى ساعات، فهذا أمر لا يحتمله قلبها.

انهارت عندما أبلغها الابن الأصغر بأنه مسافر إلى أكثر البلاد الأوروبية التى تكرهها للعمل وتَلقِّى خبرات أفضل، انهارت وصرخت فيه: أليس هناك عمل هنا فى بلدك؟ لماذا الغربة؟ ينظر إليها فى دهشة ويتهمها بالأنانية، هل هى أنانية لأنها تريد أن تعيش معه بقية أيامها، فمن يسافر لا يعود، كلهم لم يعودوا، مَدُّوا جذورهم فى أرض غير أرضهم، وصنعوا حياة لا تشبههم، صاروا أغرابا، وهى لا تريد أن ينتهى بها الأمر فى بيت للمسنين مثل أمهات كل من هاجروا، تستعطفه تارة وتصرخ فيه تارة "يعنى حاتسيبنى لوحدى" يبتسم: "لا طبعا حاجى كل سنة وأنتِ تعالى".

سنة يعنى اثنا عشر شهرا، مستحيل، كيف تحتمل رحيله وهو فى تفاصيل يومها بطل؟ وهى التى ظنت أنه لن يتركها أبدا، فالابن الأكبر أعلنها صريحة أنه لن يمضى حياته بجانبهم، وانطلق يجوب العالم بحثا عن أحلامه التى لا يعرفها بعد، تألمت لذلك كثيرا لأنه ميزانها الحالم الفنان، ولكنها ظنت أنها سترتكن على أخيه الأصغر فى الكبر، وأنه السند، وأن ما قدمته من رعاية ومحبة لجدتها ووالديها، وأخيرا حماتها التى أصيبت بالزهايمر وتعيش معها منذ ست سنوات، سيشفع لها وتكافأ عليه فى شيخوختها، ولكن على ما يبدو أن النهاية ستكون فى دار مسنين وحيدة ومنسية.

أتساءل: كيف يبحث الأبناء عن حياة بعيدا عن أمهاتهم وأوطانهم مهما تكن المغريات والخبرات؟ فالحياة تفاصيل حميمة وذكريات تنسج فى دفء الأوطان، وكم من حيوات ضاعت لهثا وراء تراب الغربة والهجرة والجرى وراء المادة، فالحياة يجب أن تعاش مع من نحب ومن ننتمى إليهم، وكل مجد ونجاح لا يكون له معنى إلا مع من يهمهم أمرنا، ومعلقة حياتهم وروحهم بنا، فلا ترحلوا وتتركونا بلا روح.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
مروة الطوبجي تكتب: وكان "الاختيار".. هو القرار الذي أنقذ مصر

مصر محمية ومحروسة ومُؤَمَّنة بصقورها ورجالها الوطنيين الشرفاء ممن وضعوا أرواحهم على كفوفهم فى الأوقات العصيبة؛ ليحفظوا أمن هذا الوطن ومقدراته، بينما

مروة الطوبجي تكتب: في حضرة السيدة انتصار السيسي

مررت بفترة عصيبة تقلبت فيها ما بين الفقد والمرض بعد سفر أولادي للعمل بالخارج ولم أحتمل فراقهم، وبرغم ظني بأنني امرأة قوية انهرت رغما عني وخاصمني قلمي، وبت أعيش بلا روح حتى جاءتني طبطبة الرحمن

مروة الطوبجي تكتب: تمكين المرأة في الجمهورية الجديدة

أنا وزير المرأة كلمات رد بها فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي عندما سئل عن احتمالية تعيين وزيرة للمرأة مستقبلا، فنزلت كلماته بردًا وسلامًا على قلوبنا لطمأنتنا نحن نساء مصر

الأكثر قراءة