شرح جميع الفلسفات دون انحياز لأي فلسفة لكن الوجودية كانت غالبة على روايات مثل «الشحاذ» و«الطريق»
موضوعات مقترحة
المرأة تحصل على حقها كاملا وتتخلى عنه طائعة
كتب نجيب محفوظ أكثر من ألف مقال، كان من حسن حظى أن قمت بتحريرها وتحقيقها وتقديمها لصالح الدار المصرية اللبنانية، تنقسم المقالات إلى ثلاثة أقسام رئيسية، الدين والفلسفة والثقافة- السياسة والمجتمع والشباب - العرب والعلم والتقدم.
بدا نجيب محفوظ فى هذه المقالات فى دور الواعظ الأخلاقى المطالب بالديمقراطية على استحياء، والتغير الاجتماعى، بشكل إصلاحى وليس ثوريا، حتى إنه عندما سئل عن ثورة يوليو قال: نعم فرحت بها لكنها لم تأت بالديمقراطية، هذا الجانب الاجتماعى سنرى عكسه فى روايات مثل «اللص والكلاب» عام 1961، و"السمان والخريف" عام 1962.
فى روايتى "اللص والكلاب"، و"السمان والخريف" يطرح نجيب محفوظ مسألة التغيير الثورى، ويحكم عليها بالفشل من خلال عامل بسيط يساعد الطلبة فى سكنهم ويتعلم الاشتراكية على يد طالب هو رؤوف علوان، ويحدث أن يسرق العامل، فيتوسط له أستاذه وهو ينصحه بأن السرقة حل فردى، والمطلوب هو تغيير ثورى، لصالح الطبقات الفقيرة، ويطرد من منزل الطلبة، ومعه كتب الاشتراكية، ويسرق مرة أخرى، لكن مساعده يشى به لدى البوليس، ويسجن لمدة عامين، فتخونه زوجته مع مساعده. «عليش ونبوية»، هما بداية الثورة الحقيقية فى نفس سعيد مهران، وبداية التغيير لديه بدافعين مهمين هما شخصى، واجتماعى، ثار على الخيانة والظروف التى دفعته للسرقة، لهذا ستفشل ثورته، كما سنرى، يصف نجيب محفوظ هذه البداية على لسان سعيد مهران، ولا ننسى أن نجيب يقول إن سعيد مهران، بطل الرواية: اللص والكلاب، يعبر عن آرائه فى المجتمع، يقول نجيب محفوظ: «وهو واحد خسر الكثير حتى الأعوام الغالية خسر أربعة منها غدرا، وسيقف عما قريب أمام الجميع متحديا: آن للغضب أن ينفجر، وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت، وللخيانة أن تكفر عن سحنتها الشائهة.. نبوية عليش، كيف أصبح الاسمان اسما واحدا، وثناء - ابنته - إذا خطرت فى القلب، إنجاب عنها الهم والغبار والبغضاء والكدر، وسطع الحنان فيها كالنقاء غب المطر، ماذا تعرف الصغيرة عن أبيها، لا شىء، كالمارة والطريق والجو المنصهر»، ثم يحاول قتلهما فيفشل ويقتل رجلا بريئا، يلجأ إلى أستاذه رؤوف علوان فيخذله، ويحاول قتله هو أيضا، فيقتل حارس منزله، يقول سعيد مهران عن أستاذه رؤوف علوان: “ألا يستيقظ ضميرك ولو فى الظلام؟”، ويقول: «تخلقنى ثم ترتد، تغير بكل بساطة فكرك، بعد أن تجسد فى شخص كى أجد نفسى ضائعا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل، خيانة لئيمة لو اندك المقطم عليها دكا ما شفيت نفسى».
والمحصلة، يفشل سعيد فى كل انتقاماته، ذلك أن الفرد لا يغير المجتمع بمفرده، بل المجتمع هو الذى يغير الفرد، كما فى رواية “السمان والخريف”، فعيسى الدباغ سكرتير وزير الداخلية، يحاكم فى محاكم ثورة يوليو، لأنه من النظام الملكى، ويظل يحلم بفشل ثورة يوليو حتى يعود إلى مجده القديم، إلى أن يحدث العدوان الثلاثى فى مصر عام 1956، فيجتمع مع أصدقائه ويراهم فرحين فى انتظار هزيمة مصر، فيقول لهم باستنكار: هل تريدون أن يهزمنا اليهود حقا؟! ويبدأ فى تغيير موقفه، شيئا فشيئا، وكلما حققت الثورة نجاحا يفرح، إلى أن يندمج مع المظاهرات التى خرجت تندد بعدوان 1967 على مصر، فتجرفه الجماهير فى طريقها وهو مستسلم لها، والمحصلة المجتمع هو الذى يغير الفرد، فمع كل نجاح للثورة، وكل زحف للجماهير تتبدل مشاعر عيسى، يشعر بقلق من انفصاله عن شعبه: “أى مصيدة وقعنا فيها، إنه التخبط والتمزق والعذاب، إما أن نخون الوطن، أو نخون أنفسنا، لكن الهزيمة فى هذه المعركة تعنى بالنسبة لى شيئا هو أفظع من الموت.
الجماهير إذن أقوى من الفرد، الجماهير تصنع التغيير، والفرد لابد ملتحق بها، لا العكس، فشل سعيد مهران، وتغير عيسى الدباغ ناحية الجماهير، “أحيانا أقول لنفسى إن الموت أهون من الرجوع إلى الوراء، الرجوع إلى الوراء غير ممكن استعادة المجد الذاتى والثراء الفردى، فى وطن يضرب بالقنابل من كل صوب هى المستحيل عينه، وتحت وقع القنابل التى تقذفها جيوش العدوان الثلاثى، أمسى كالغريق لا يفكر إلا فى النجاة، وخيل إليه أن الحاجز القائم بينه وبين الثورة يذوب بسرعة لم تخطر له ببال من قبل، وذلك عكس مقالات نجيب محفوظ التى تتوجه دائما إلى السلطة يطالبها بالإصلاح وبالتغيير، ولم يحاول أن يعارض أى نظام فى مصر. يضع نجيب مقولة جامعة على لسان عيسى: “التاريخ واسع الصدر وسيدافع عن نفسه بعد انقراض المتخاصمين جميعا”.
فى مقالاته الدينية، يدافع نجيب محفوظ عن حق المتدينين فى تكوين أحزاب خاصة بهم، قبل أن يرى المصريون مهازلهم بعد يناير 2011، ولو كان نجيب محفوظ عاش بعد هذا التاريخ لغير رأيه، وبالتالى تمثيلهم فى البرلمان، باعتباره ليبراليا من أبناء ثورة 1919، ويرى فى الزعيم سعد زغلول ملهما استثنائيا، بينما يظهر رجل الدين فى رواياته سلبيا، كما فى رواية اللص والكلاب، الذى يرد دائما عندما يلجأ إليه سعيد، باعتباره كان صديقا لوالده، طالبا مساعدته يقول: «قل إن كنتم تحبون الله ورسوله فاتبعونى يحببكم الله ورسوله».
يقول له سعيد مهران: لقد هرب الأوغاد، كيف بعد ذلك أستقر؟ يقول الشيخ: كم عددهم؟ يرد سعيد: ثلاثة، يقول الشيخ: طوبى للدنيا إذا اقتصر أوغادها على ثلاثة، منتهى السلبية، ورجل الدين فى رواية” الباقى من الزمن ساعة 1977، ناقم، كاره للمجتمع، رافض له دون مبرر، ودون رؤية شاملة لإصلاحه، إلا على طريقته، المدهش أن الرجل الذى طعن نجيب محفوظ فى عام 1994 لم يقرأ له حرفا، لا من مقالاته ولا من رواياته.
والخلاصة أن موقف نجيب محفوظ من الدين فى الرواية سلبى جدا، وفى المقال إيجابى جدا.
السؤال: أى الموقفين يعبر عن شخص نجيب محفوظ ؟ أعتقد أن موقفه فى الرواية.
ولنتأمل معا موقف نجيب محفوظ من الدين فى أحد حواراته مع محاورة أجنبية، هى تشارلوت الشبراوى لصالح مجلة “باريس ريفيو”، ما رأيك فى قضية سلمان رشدى؟ هل تعتقد أن الكاتب ينبغى أن يحظى بحرية مطلقة؟ يجيب نجيب محفوظ : “سأقول لك بالضبط ما أعتقد به، لكل مجتمع تقاليده وقوانينه ومعتقداته الدينية، وهذه جميعا تحاول وضع الحدود، وأعتقد أن من حق المجتمع أن يحمى نفسه، كما أن للفرد الحق فى مهاجمة ما يختلف معه، ثم: أنا أدافع عن حرية التعبير وعن حق المجتمع فى مناهضتها.
تسأله الصحفية: هل قرأت الآيات الشيطانية؟
فيجيب: لم أقرأها.
ثم تسأله الصحفية: هل تصلى؟ فيجيب: أحيانا، وبينى وبينك، أنا أعتبر الدين سلوكا إنسانيا جوهريا، لكن معاملة الناس بطريقة جيدة، أهم من قضاء المرء كل وقته فى صلاة وصيام وسجود.
الخلاصة، موقف نجيب محفوظ من الدين راديكالى فى الرواية جدا، سلبى جدا، وفى المقالات عاقل جدا، متناقض جدا، وفى الحوارات متناقض أكثر.
نجيب محفوظ دارس للفلسفة، وخريج آداب القاهرة، قسم فلسفة، وبدأ مقالاته بالكتابة فى الفلسفة، دون موقف واضح من أية فلسفة، لا مع أو ضد، بل اقتصرت مقالاته التى شكلت ثلث المجلد الأول، على شرح النظريات الفلسفية باستفاضة، وكأنه كان يذكر بها نفسه، فيما هو مخلص جدا للفلسفة الوجودية، كما فى روايتى “الشحاذ”، و”الطريق”، فالسؤال الأهم فيهما، من أنا؟ وما الله؟ وأين هو؟ وما تأثيره فى حياتنا، ويحل هذه الأسئلة كلها بالتصوف، كما انتهى به المقام فى رواية “قلب الليل”، التى ترد فيها جملة من عينة: ما أخبار إيمانك اليوم يا جعفر؟ فيقول: إنى عاجز عن الكفر بالله. من الغريب فى مقالاته عن الفلسفة، ما قاله عن الفلسفة الماركسية، فقد رأى أن إلغاء الفردية أمر خطر، وأنها ستنهار بشكل مفاجئ، وهو ما جرى، لكنه فى رواياته يعلى من شخصية الشيوعى، فى مقابل عضو الإخوان المشوه، لكن من ضمن نبوءاته أيضا، أن جعل شخصية الاشتراكى فى الثلاثية عقيما لا ينجب، فى حين أن عضو جماعة الإخوان كان كثير الأولاد.
موقف نجيب محفوظ من المرأة، وهى قضية اجتماعية غاية فى الخطورة فى المجتمع الشرقى، فى مقالاته لا يذكر محفوظ المرأة إلا نادرا، فى مقال أو اثنين، ولا يقف طويلا أمام مشكلاتها، بينما فى رواياته ينتصر للمرأة الحرة، التى تمتلك حياتها، وتتصرف فيها كما تشاء، بل يصل الأمر إلى حد الإعلاء من شأن “بنت الليل”، كما فى رواية “اللص والكلاب”، فيضع شخصية نور الحرة، الخلاقة، الإيجابية، فى مقابل نبوية، زوجة سعيد مهران، الخائنة، هو يكره المرأة النمطية، الخاضعة لقوانين المجتمع الذكورى، وكذلك شخصية ريرى، فى رواية السمان والخريف، يضعها فى مقابل البطل عيسى الدباغ، الفاسد المنتهك لحقوق الإنسان، هى قوية وإيجابية، ومتعاونة، هربت من أهلها فى البحيرة لكى لا تتزوج من رجل عجوز، يفرضه أهلها عليها، لتختار حياة الليل، وهو فاسد، سكير، يبيع نفسه لامرأة عاقر، تملك منزلا كبيرا، وغارق فى القمار، يبكى على حياته الضائعة، أيام العز، وقت أن كان فى السلطة، يتحكم فى رقاب الناس بإذلالهم، حتى إنها عندما حملت منه “ريرى” لم تنسب الطفلة إليه، بل رفضت حتى أن يراها.
وفى الحوار الذى أشرت إليه مع “باريس ريفيو” تسأله الصحفية: ماذا عن النساء اللاتى يغطين رؤوسهن، بل وجوههن وأيديهن، هل هذا مثال على الدين؟ إذ يناقض احتياجات الحضارة؟
يقول نجيب محفوظ: تغطية الرأس باتت موضة، وهى لا تعنى أكثر من هذا فى الغالب، لكن ما أخشاه بحق، هو التعصب الدينى، ذلك تطور هدام معارض تماما للإنسانية.
فى النهاية نجيب محفوظ إصلاحى وليس ثوريا، فالمجتمعات تكره الثوريين، برغم إنجازاتهم، وتحب الإصلاحيين، حتى إنه فى المقال الوحيد عن المرأة تنبأ بشىء، حدث بالفعل، حيث قال: إن المرأة ستنال حقها كاملا، وستتخلى عنه طائعة، وإذا كان فى مقالاته يحترم رجل الدين، فإنه فى رواياته يراه غير مجد، “فتوضأ واقرأ” التى يقولها الشيخ الجنيد فى الرواية، لا تنقذ سعيد من الموت، وكذلك كلمة رؤوف علوان “تدرب واقرأ”، لم تنقذه، كليهما فشل فى الإنقاذ، رجل الدين والشيوعى.